بوجوه بلا ملامح، تشبه الموت، وبأصوات بلاستيكية بريئة من شبهة العاطفة، تناوب رئيس وزراء بريطانيا والرئيس الاميركي ووزير دفاعه ورئيس أركانه ثم وزيرة خارجيته على نهش لحم العراق، علناً، وأمام الجمهور الساهر للتفرج على مصرع آماله، ودائماً بالذريعة القديمة ذاتها: عدم التزام صدام حسين بالعقوبات الدولية التي تسبب بفرضها على بلاده المسحوقة بمغامراته كما بالحروب »الدولية« المتوالية.
كان المسرح معداً منذ وقت، و»الأبطال« يعرفون أدوارهم تماماً، وقد تدربوا على »لعبها« طويلاً بحيث يكاد يستحيل الخطأ: كان العنصر الوحيد الناقص هو »ساعة الصفر«، فلما هوت الصواريخ الأولى عند الواحدة فجراً (بتوقيت بغداد) بدأ العرض المتوقع والذي اعلنت تفاصيله مرات ومرات حتى حفظه الناس عن ظهر قلب.
ربما كان كثيرون يتعجلون هذه الحرب: في الطليعة صدام حسين، ومن بعده بعض الانظمة العربية، ولا سيما في منطقة الخليج التي فرض عليها ان تدفع ألف مرة كلفة حرب لم تقع، فباتت تتعجل وقوعها لعلها بذلك »ترتاح« خصوصاً إذا ما استعاد النفط أسعاره العالية التي مع انخفاضها ارتفعت الاصوات مذعورة وشبح العجز في الموازنات يخلخل الثقة بالنفس (وبالحليف الكبير) ويحبّب إليهم »الحرب« لعلها تكون الخاتمة الحزينة ولكن الضرورية لليل السهاد الطويل!
بعد »الأبطال« العرب، وليس قبلهم، ولأسباب مختلفة، يجيء صاحب القرار بالحرب: الرئيس الاميركي بيل كلينتون، تتقدمه الطليعة المقاتلة، بريطانيا، فيتولى رئيس حكومتها »الاشتراكي« طوني بلير التمهيد بالحيثيات والمسوّغات التي تبرر التصرف من خارج مجلس الأمن الدولي، أو الشرعية الدولية.
ربما كان غرق كلينتون في بركة الإهانة التي وجهها إلى بلاده بفضائحه الشخصية.
وربما كانت الإهانة الجارحة التي وجهتها اسرائيل، قبل يومين فقط، إلى كلينتون خلال زيارته »الإنقاذية« لاتفاقه الفلسطيني المرجأ التنفيذ.
وربما كان التوقيت قد تم تحديده ليلغي احتمال التصويت في الكونغرس حول استمرار كلينتون في الرئاسة.
كل هؤلاء كانوا يحتاجون هذه الحرب ويطلبونها، حتى شعب العراق المنكوب بنظامه، والمضيَّعة كرامته وثروته وحقوقه كافة، وأبسطها حقه في الحياة فوق أرضه، كان يتوقع الضربة وينتظرها وسط عجزه عن منعها وعجزه عن الرد عليها وعجزه عن حصر حدود الكارثة التي تجتاحه نيرانها الآن.
وكل العرب عراق.
ومثل العراقيين، فإن سائر العرب يمضغون عجزهم ويتفرجون على أشلاء بلادهم وهي تتناثر نهباً للصواريخ الأميركية البريطانية، وعلى مستقبلهم وهو يُغتال أمام عيونهم فلا يملكون إنقاذهم.
كل العرب عراق.
كلهم يخوض في دمه وفي عاره وفي عجزه وفي خوفه وفي انسحاقه تحت ضغط المهانة والإذلال.
وكل منهم يهرب بنفسه من عيون أبنائه أو إخوته أو أصدقائه أو زملائه، عدا عن عدوه الإسرائيلي أو بإبطال عملية »ثعلب الصحراء« التي راعى أبطالها مشاعر المسلمين (!!) فقرروا إنهاءها مع بداية رمضان.
إهانة أخرى؟!
ما لجرح بميت إيلام!
مرة أخرى: لحمنا هذا الذي يؤكل، دمنا هذا الذي يسيل، وإلى جهنم المسبب والمستفيد.