طلال سلمان

حرب اهلية باسم ديموقراطية

خلال أربعة أيام فقط من الديموقراطية الطائفية على الطريقة اللبنانية تم تحقيق »الإنجازات« التاريخية التالية:
1 اغتيال الحكومة التي لما يكتمل عديدها، ولما يقر بيانها الوزاري، ولم يتهيأ الناس بعد للحكم لها أو عليها، خصوصا وقد وُلدت بأسرع مما توقعوا وبأهون مما قدروا، فتخوفوا مما قد »تستولد« ولادتها من منغصات ومسببات لتفاقم أزمتهم المعيشية الخانقة.. ومن ثم السياسية المعقدة!
2 شطر المجلس النيابي الوليد إلى معسكرين أو اتجاهين متمايزين إلى حد التضاد، بالمبادرة السريعة إلى طرح قضايا خلافية مما عجل في نشوء استقطاب حاد، واستولد مناخا غير صحي يتعذر معه »الحوار« فكيف ب»التسوية« التي غالبا ما تُبتدع على عجل حرصا على »الوحدة الوطنية«!
3 الطعن في الحكم، ككل، وتجاوزه بعدم التوجه إليه، بل واعتباره في بعض الحالات وكأنه »الخصم« وليس المرجع الصالح!
من باب الاستدراك لا بد من الإضافة: إن أطول قراءة في أطول بيان سياسي في تاريخ لبنان النيابي لم تكن تستهدف الإعلان عن قيادة جديدة، أو تقديم برنامج لحكم بديل. فلا هي مقدمات »للثورة«، تلك الأطروحات التي أطلقها بعض المعارضين من موقع الموالاة أو بعض الموالين من موقع المعارضة، ولا هو »البلاغ الرقم واحد« في صياغته التمهيدية الأولى، خصوصا وأن »أبطال الكلام« هم من المميزين في علوم المساومة وصفقات التسوية التي يخرج فيها جميع الأطراف رابحين، على حساب فكرة الوطن والدولة قيد التأسيس!
ومن باب النقد الذاتي للسلوك السياسي السائد لا بد من التسليم بصحة البديهية القائلة: عندما ترتدي الطائفية لبوس السياسة فإن الحرب الأهلية تجيء باسم الديموقراطية وحق الاختلاف!
وعندما يطاول الانشطار باسم حماية الحقوق والمواقع الطائفية، المسلمات الوطنية والقومية، يصبح من الضروري التفتيش عن المستفيد الأعظم من مثل هذه الخطيئة السياسية، خارج الملعب المحلي وفرقه المشاركة في المباراة بألوان مختلفة ولكن بالتسديد على مرمى واحد!
ومن حق الناس أن يتساءلوا وهم يشهدون طلائع هذه »المحاولة الانقلابية«: الى متى ستظل بعض التيارات والقوى السياسية اللبنانية تمارس »ترف« الحرب الاهلية، ولو بغير سلاح… حتى إشعار آخر، أي حتى يتوفر الحامي والممول والمستثمر المؤهل والقادر على استثمار النتائج؟!
وانطلاقا من انه لا زعامة سياسية بغير الولوغ في اللعبة الطائفية او النجاح في تصدر »ساحتها« فإن العديد من السياسيين المحترفين، واكثر من بين الهواة والمستجدين الآتين ليكملوا ما بدأه »الرواد« والسابقون، يمارسون متعة الرقص فوق الالغام إرضاء لشهوة السلطة، وإثبات التميز والفرادة والقدرة على »ما لا يستطيعه الآخرون«، وقد استغرقوا في رهان دائم على ان امرا ما لا بد سيحدث فيرجئ الانفجار او يعدل شروط اللعبة القاتلة، وتكتب لهم مع الحياة مغانم الحكم ولو في بلد مهدم!
ما هو موضوع الرهان اليوم؟!
الانتخابات الاميركية، التي بالكاد تتعرض »المباريات التقليدية« بين مرشحيها المتماثلين الى حد التطابق، الى السياسة الخارجية عموما، وضمنها الى الشرق الاوسط الذي يكاد يختصر وحتى إشعار آخر بموضوعين هما في الاستراتيجية الاميركية موضوع واحد: اسرائيل والنفط!
ولكن فرسان الجمل الثورية في برلمان الالفين ليسوا، على اهميتهم، في مثل المستوى الاستراتيجي لاسرائيل والنفط في سياسة اي من المرشحين المتشابهين بوش وآل غور!
أم أنها الانتفاضة المجيدة في فلسطين التي تبشر بحقبة جديدة في العمل السياسي العربي، تتجاوز في »راديكاليتها« ما شهدته هذه المنطقة اثر نكبة 1948، من تحولات وتفجرات وانقلابات وثورات، خصوصا وان الانسان العربي، الآن اكثر اهلية واعظم وعيا واكثر استعدادا للتضحية من اجل حقه، في وطنه بغير ان ينقص ذلك من استعداده للنضال من اجل وطنه وحقه في التحرر وفي التقدم، بل هو الآن يرى الحق واحدا، فلا وطن حر بلا مواطن حر، ولا مواطن حر في وطن يستعبده الاجنبي، او يستغله حاكمه الدكتاتور!
ثم ان هذه الانتفاضة تتخذ من لبنان المثل والقدوة، وتعوض مقاوميه وشهداءه النقص في التقدير الذي لاقوه في بعض بلادهم، وتحتفل بنصره وتتمثل به بينما يكاد يطمسه المستفيدون منه، في لبنان، والذين بفشله بقي لهم حق الرأي.
ام هو جنون الدم الاسرائيلي بكل ما يطرحه من احتمالات تتجاوز التوقع، وان كانت التهديدات المتواترة يوميا تلح عليها صراحة ولا تكتفي بالتلميح، وبينها اطلاق التفوق العسكري الاسرائيلي ليفرض واقعا سياسيا جديدا في كل الاقطار المجاورة لفلسطين، وأساسا في سوريا ولبنان؟!
ام انها، وببساطة، محاولة لتعديل »دفتر الشروط« في اللعبة الداخلية، بعد عملية اضعاف منهجية للحكم، تورط فيها بعض اطرافه، فصار سهلا وغير مكلف ان يتجرأ عليه بعض من حاربهم خطأ، وبعض من حالفهم وتعهدهم بالرعاية حتى صاروا عبئاً عليه وعلى موقعه ومن ثم على الدولة ومرتكزاتها التي ما تزال هشة وقابلة للارتجاج اذا ما هبت رياح السموم الطائفية؟!
أخطر ما في الامر ان يتم الرد على المنطق الطائفي بمنطق طائفي، وهذا اكثر ما يتهدد الان الحكم كله، بمؤسساته جميعاً، وبالتحديد المجلس النيابي الوليد والحكومة التي لما تفرغ من صياغة برنامجها الانقاذي الذي يبقى ضرورة مهما كان متواضعاً في وعوده وفي خططه العملية!
ومن أسف ان قلة قليلة جداً من اطراف اللعبة السياسية استطاعت الحفاظ على شيء من »براءتها«، وظلت على مسافة من الانجراف مع تيارات المزايدة والمناقصة الطائفية،
… خصوصاً وان الانتخابات كانت مناسبة طيبة لالغاء السياسة، أو لطمسها، وترك المجال فسيحاً امام المنطق الطائفي الذي نشهد اليوم بداية لهيمنته شبه الكاملة على الحياة العامة، بجوانبها السياسية والثقافية والاقتصادية بل لا سيما الاقتصادية منها..
والكلمة بعد للحكم لتوكيد اهليته بالقيادة وجدارته بالمسؤولية وقدرته على مواجهة »المشروع الانقلابي« عن يمينه، وليس عن يساره،
وذلك لا يكون بالموعظة الحسنة، ولا بالتهديدات والاعتقالات والقمع، بل ببرنامج حكم متماسك وصاحب رؤية وقادر على التصدي للمأزق الاقتصادي الذي يضيق على الناس حياتهم ويأخذهم تحت رايات طائفية الى حيث لا يريدون سياسياً.

Exit mobile version