ماذا يخبئ لنا الغد؟
اولا، ليس عندنا غد. نحن ماضٍ لا يمضي. ركام تحته ركام وفوقه ركام.
اخيراً، لا امامُ امامنا. الوراء قُدَّامنا. الزمن مصاب بالعمى.
لا نتقدم ابداً. نحن في الموقع الغلط منذ الولادة.
وبين اولاً وأخيراً، يزحف لبنان إلى آخرته. أفدح ما فيه، انه ميت لا يموت. موته مقيم. لقد بلغ المئة عام. سيدعى اللبنانيون الاحياء قليلاً، إلى احتفالات المئوية الأولى، مع كل المدائح الخرافية، والإطناب المخجل، ولن تذرف دمعة واحدة عليه. دموعنا انفقناها على آلامنا وآمالنا. تبا. بعد مئة عام، سنرث تابوتا بحجم كيان. سيشيعنا التابوت اللبناني، إلى مثوانا نحن: مثوى أحلامنا الخائبة، وآمالنا المستحيلة واناسنا الطيبين. ويتعّين علينا أن نشكر من فتك بلبنان وأهله، طوال قرن تام من الزمن.
أمبالغ أنا؟
كلا. لقد بالغنا في مدح لبنان. لم يبق شاعر الا ونظم رائعة كلامية في عظمة وامجاد لبنان. كذب ودجل. لم يبق فنان الا وأرشدنا بأنغامه إلى طرب يشبه احتفالات الاعراس وسط بكاء سري ممنوع… لبنان هذا، الوطن الموعود، كان غائبا دائماً. لم يحضر كوطن طوال دهر. تقاسمته أفاعي الطوائف. لكل طائفة وكر، وفي كل وكر حشد ملزوز من عقارب الطوائف… لبنان الحقيقي “الجايي”، لم يجئ ولن… الآمال القليلة خابت. مئة عام، من سيء إلى اسوأ، حتى بلغنا البلاطة – الشاهد: هنا يرقد لبنان، وليس عندنا “لبنان” آخر، بديلاً عنه. فعيشوا كالأموات.
كل ما حدث معروف ومدون. اجسادنا المهشمة تشهد على ذلك.
آمالنا المطحونة دليل على ذلك. احلامنا الموؤودة برهان على ذلك والادلة كثيرة. لقد تناوب على حكم، عفوا، على التحكم بهذا البلد ” الرائع”. لجنة من ابالسة السياسة والعمالة والجهالة. يقال: ليس في لبنان لبنانيون. قلة من الايتام تؤمن انه كان لنا وطنا او أماً. الذين تناوبوا على التحكم في السلطات، أكانوا رجال سياسة ام رجال دين، كانوا يزنون علانية. لا ينامون الا في فراشٍ أجنبي او غريب او قريب. الفراش اللبناني، نامت فيه زبانية الخارج مخدومة بأفدح “الجمالات” في الداخل. السياسة فعل دعارة والأنجح هو الأدعر.
كفانا نقيقاً. هذا هو لبناننا. شُبِّه لنا انه وطن. لم يكن كذلك فلنتوقف عن الرثاء والبكاء. لا اعرف أن كان خلاص لبنان يكون في موته. بانتظار حتفه علينا أن نصدقه القول: لقد منعونا عن حبك. كان بودنا أن تكون ايقونتنا وآيتنا ونبوءتنا. عبث. لقد استطاع لبنان الرسمي، والشعبي خلفه، أن يرفع من اتضع، وان يخفض من ارتفع. انتصاراته الوهمية، مدح يشبه الهجاء. انتصاراته الحقيقية، عوملت بالطعن والعنف والتيئيس. ومع ذلك، بذلنا جهداً كي نبقى اوفياء “للوطن”، ولكنه جهد ضائع وخائب.
بعد فجر 17 تشرين، آمنا بأن القيامة قادمة. قلنا، سيقوم لبنان من تحت الردم، وان ” الثورة تولد من رحم الاحزان”، وأن الانتصار في متناول مليونيه لبنانية، ارعبت طغمة ظالمة، وارثة الظلم العثماني والفرنسي وال…. “الدكتاتورية المثالية”.
ماذا يخبئ لنا الغد؟
السؤال واضح. الجواب برسم الثوار. الا يجب أن نكف عن الكلام، ونسير في الطريق الصعب والشاق والطويل؟ لم يعد الكلام والنقد والتشهير الصحيح مجدياً. البلد خرقة مهلهلة اخلاقياً وسياسياً وانسانياً واقتصادياً. ولكن هذه الخرقة محروسة بقوى ورثت كل عاهات العهود السابقة، واستقوت بجماهيرها المدمنة على افيون الشعوب. ليس الدين افيون الشعوب، بل الطوائفية والمذهبية. الاحرار كثرة مشتتة. لم تتفق بعد على نص موحد. فلتسقط النصوص كلها. الأهم من الحروف والنصوص، الاقدام أفضل من الرؤوس، والشوارع مشتاقة، كما الساحات، إلى نبض الاقدام، لا إلى شعارات بحناجر تملك جرأة القول.
السؤال، بمناسبة المئوية الأولى والاخيرة للبنان هو التالي: ما العمل؟
حتى الآن، لا اجابات عملية. البدائل المتوفرة لم تجد بعد طريقها إلى قلب الاوضاع. هل هو ضعف لا شفاء منه، ام هناك محطات أخرى قد تبشر باندلاع القوة؟
الأمل، هو خبزنا اليومي، برغم اشباح المجاعة التي تراودنا. فلنعتصم بهذا الأمل. اذا خسرناه، فلا حول ولا قوة.
هل هذا النعي سابق لأوانه؟
ليت نعم. ولكن الحقيقة أن هناك جثة حية، فيما الوليد الموعود، ما يزال ممنوعاً من الولادة.
الأمل، هو ما تبقى لنا. وهذا كنز لا يفنى. الثورة تولد من رحم الأمل وعصب القوة وجرأة المبادرة. لقد خسرنا لبنان الأول، فلنجرؤ على التحدي: “منتصب القامة أمشي”… وسنصل.