مرة أخرى يتدخل الغرب لإنقاذ إسرائيل من نفسها،
بل لعل الغرب يتدخل هذه المرة لإعادة تأسيس إسرائيل بما يتناسب مع دورها الجديد في المنطقة التي رفضتها طويلاً ثم سلَّمت بها مكرهة، في الغالب الأعم، ومنساقة مع الأوهام وأحلام اليقظة في حالات محدودة ومشهودة.
لقد كان التأسيس الأول سياسيù، بوعد بلفور قبل ثمانين سنة،
أما التأسيس العملي فقد تمّ على الأرض 1947 1948، وتولى خلاله الغرب تأمين الحماية العسكرية والمدد الاقتصادي الضروري ثم الشرعية الدولية عبر قرارات الأمم المتحدة.
لكن إسرائيل أواخر التسعينيات أقوى عسكريù من أن تحتاج إلى حماية أو إلى ضمانات بالسلاح، في حين تشتد حاجتها الى حمايتها من ذاتها، أي من طبيعتها، من فلسفتها الصهيونية القائمة على القوة والاستيطان والحرب المفتوحة لقهر الآخرين واقتلاعهم من أرضهم والتمدد بمدى حد السيف.
إسرائيل هذه هي التي تحتاج إلى حماية (أو إنقاذ) من ذاتها..
فالكاتب الاسرائيلي دافيد غروسمان يقدم في مقال نشرته صحيفة »ليبراسيون« الفرنسية، أمس الأول، وصفù لافتù لإسرائيل، إذ يقول:
»إن حياتنا في إسرائيل مجبولة بالعنف اللامتناهي. فهذه الدولة ولدت وسط الصراع والحروب والارهاب، وصاغت الغزوات حياتها، وقد سعى رابين إلى إحداث تغيير عميق في مفهوم العنف هذا، على الرغم من أنه كان هو نفسه لسنوات طويلة جزءù منه، وجاء سعيه هذا بعد أن كان العنف احتل كل زوايا حياتنا العامة والخاصة. وليس القاتل إلا ثمرة هذه الفظاظة والحقد والجور التي اعتدنا عليها، واعتدنا على توجيهها ليس فقط نحو أخصامنا، بل أيضù ضد ذواتنا«.
ولأن الغرب يعي هذه الحقيقة وإن كان يخاف أن يواجه إسرائيل بها، فقد جاء اغتيال إسحق رابين، البطل النموذجي، وعلى يد واحد من »أبنائه« المشبعين بإرادة القتل و»مرض الإسرائيليين«، مناسبة تاريخية للتدخل من أجل إنقاذ إسرائيل من ذاتها، أي من إرهابها المستشري من الفرد إلى الدولة وبالعكس.
وهكذا ارتدى الغرب كله القلنسوة وسارع بأسره العريقة الحاكمة ورؤساء دوله العظمى والكبرى الى الدولة المضرجة بدمها، ليس فقط ليشارك في دفن رجل التغير والتغيير فيها، بل ليحاول حماية الولادة الجديدة لإسرائيل المؤهلة الآن للحياة بغير حروب ضد الآخرين، ولكن بشرط ألا تنحر نفسها بعنفها الذاتي الذي يقرّبها من حافة الحرب الأهلية.
لا حاجة الآن إلى جسر جوي لنقل الدبابات بأطقمها جاهزة للمشاركة في القتال، أو لنقل الصواريخ المضادة للصواريخ بأطقمها الأميركية، أو لأساطيل الطائرات الحربية التي بالكاد اكتمل إنتاجها،
إن إسرائيل بحاجة الآن إلى صورة »الأرملة« المجللة بالسواد، إلى صورة الضحية، ولو أنها ضحية عنفها الذاتي.
لقد انتفت الحاجة إلى الجنرال محطِّم العظام، واشتدت الحاجة إلى »رجل السلام«، السلام الداخلي بداية، والذي يأتي »السلام« مع الخارج ودائمù بشروط التفوق الإسرائيلي المطلق وتحت ضغط الخوف من هزائم جديدة تعزيزù وتدعيمù له وليس بديلاً منه.
جاء الغرب، اذاً، لتحصين »اسرائيل العظمى« وطمأنة الاسرائيليين الخائفين من انفسهم، المذعورين من احتمال تفجرهم بعنفهم »التاريخي«،
لقد باتت اسرائيل أقوى من ان تحتاج الى إثبات قوتها، لكن »الاسرائيلي« أضعف بعنفه الداخلي وبتراثه الإرهابي من ان يطمئن الى انه يستطيع الاعتراف بالآخر والاكتفاء بأن يهيمن عليه بعقله، وباقتصاده القوي وبالمساندة الدولية المطلقة التي تجاوزت ببعض مظاهرها أرخص انواع النفاق العلني.
والسؤال المفتوح الآن هو حول العلاقة بين »السلام في ما بين اليهود« وبين »السلام مع الآخرين، اي العرب«، وأيهما يؤدي الى الآخر.
ومع كل الحرص الغربي على حماية الصورة الجديدة لإسرائيل، فسيظل على الاسرائيليين انفسهم ان يقرروا: هل هم سيتابعون ما كان بدأه اسحق رابين، بعد سبع وعشرين سنة من القتال، ام هم سيكملون ما باشره ايغال عمير الذي يكاد عمره يساوي زمن الحرب في حياة رابين.
لقد بدأت تطفو على السطح بعض ملامح ذلك المجتمع المعقد الذي يكاد يفتقد خارج العنف والاسطورة الدينية المحرضة عليه اسباب التماسك، بل الوجود، وبالتالي الاستمرار.
ولقد اخذت »النخوة« الكثير من المسؤولين العرب الى اسرائيل، وهزتهم الفجيعة برابين، فبكوا واستبكوا، موفرين ضمانة اضافية لذلك الاسرائيلي الخائف من كل الناس ومن كل شيء، والذي يشكل احترافه العنف ذروة خوفه الذي يمتد الى نفسه فيدمرها تدميراً.
ولسوف يكون الصراع عنيفاً داخل هذا »المجتمع« الاسرائيلي،
والمرجح ان تقاوم قوى اساسية فيه »التدخل« الغربي للإنقاذ وإعادة التأسيس،
والعنصر الناقص الوحيد في هذا المشهد هو العنصر العربي القادر على التأثير، سلباً او ايجاباً، وأكثر منه هو العنصر القادر على الإفادة من »جنوحه الى السلم« ما دام خيار الحرب قد بات من الماضي.
بعد ثمانين سنة من وعد بلفور، الذي عجز العرب عن إلغائه او عن مقاومة تحقيقه، ها هم يغيبون مرة اخرى عن صورة التأسيس الجديد لإسرائيل التي يحاول الغرب إعادة صياغتها، مدنياً وسلمياً، بحيث تكون عظمى لا كبرى، وممتدة بنفوذها من المحيط إلى الخليج وليس فقط من النيل الى الفرات.