منذ شهور أصدرت مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة، كتاباً حول “التحذير” من صعود الفاشية. قبل ذلك بشهر، أصدر مايكل وولن كتاباً عن السنة الأولى في الحكم الأبيض. وصف الإدارة “بالنار والغضب”. عللت أولبرايت الفاشية “بالغضب والهيجان”. خلال الأسابيع الماضية هدد دونالد ترامب حلف الناتو وجارتاه كندا والمكسيك. يبدو أنه ماضٍ في بناء الجدار. انسحب من الاتفاقية النووية التي كان قد وقعها مع إيران وشاركت فيها الخمس دول أوروبية الكبرى وروسيا. ومنذ أيام أعلن عدم تبنيه بيان مؤتمر “مجموعة السبعة” الذي كان يحضره، وصب جام غضبه على تردد رئيس وزراء كندا. كل ذلك وهو يعرّض للخطر “اتفاقية التجارة الحرة” التي تعد ثالث عمود يقف عليه النظام الرأسمالي العالمي. يفرض تعرفات جمركية عالية. يهدد النظام العالمي بحرب حمائية. الحرب الحمائية الجمركية تغذي صعود اليمين والفاشيات في العالم. وهذا ما يحصل. والحرب الحمائية الجمركية هي حرب عالمية اقتصادية. وهي عادة تكون سبباً لحرب عالمية تستخدم وسائل العنف.
ترامب يخوض معارك كلامية تتخللها سخافات وشتائم، تُعرض على الشاشات أحياناً، مع معظم قادة العالم. هو ليس على علاقة جيدة إلا مع محمد بن سلمان وكيم جونغ أون. ومن الطبيعي أن يكون كل رئيس أميركي على علاقة طبيعية مع رئيس وزراء إسرائيل. يعلو منسوب المحبة عندما يكون الإسرائيلي ليكودياً والأميركي جمهورياً. الأسباب ايديولوجية. معظم يهود أميركا يصوتون للجمهوريين لأسباب تتعلّق بالسياسة الداخلية الاجتماعية. رقص ترامب العرضة في السعودية ووقع هو وعائلته في غرام ابن سلمان. اتفقا على تأجيج الحروب في المنطقة (كأنها تحتاج الى تأجيج)، وعلى وصفقات سلاح بمئات المليارات. واتفقا على بناء حاضرة جديدة على شاطىء البحر الأحمر في الزاوية الشمالية من المملكة. أخيراً، وقّع على اتفاق نووي مع كوريا الشمالية. وبدا في المؤتمر كيم جونغ أون صديقاً له، بعد شهور طويلة من السباب البذيء والتهديد المتبادل.
كوريا الشمالية لديها رؤوس نووية وصواريخ لإيصالها الى مسافات بعيدة. أما إيران فهي لم تصل الى مرحلة إنتاج القنابل النووية. يعلن ترامب قبل أسابيع خروجه من الاتفاق الإيراني رغم البنود المتضمنة التفتيش والتأكّد. وهو الآن يعقد مع القوة النووية الحقيقية، كوريا الشمالية، اتفاقاً على التعاون من أجل السلام ونزع الأسلحة النووية. اتفاق هو أشبه بإعلان نوايا. لم نرَ بنوداً حول التفتيش فيه. الاتفاق الإيراني أكثر تقدماً نحو هدفه، وهو نزع الأسلحة النووية، والاتفاق الكوري الشمالي أقل تحديداً.
يبدو أن بين قادة العالم ليس لترامب أصدقاء سوى محمد بن سلمان وكيم جونغ أون (زد عليهما محمد بن زايد). وسجل كل من هؤلاء مع شعبه حافل بالقمع وانتهاك الحقوق الإنسانية والمالية. إنّ الطيورَ على أشكالها تقع.
نعرف من التاريخ عن عقول القادة الفاشيين وعن مزاج شعوبهم حين ينتخبونهم (ألمانيا النازية، إيطاليا الفاشية)، وحين لا ينتخبونهم (عندما يصعدون للسلطة بالوراثة أو بالانقلاب كمعظم الأنظمة العربية).
عقلانية اليمين المتطرّف، كما يسمونها، أو بالأحرى عقلانية الفاشية، كما تجدر التسمية. هي عقلانية الغضب والهياج. تصب جام غضبها على المهاجرين وأصحاب الدين السياسي المتطرّف (التكفيري). تصب جام غضبها على الغير. تفترض الغير لأنها تبحث دائماً عن عدو. هي عنصرية بالتأكيد. الغير هو المختلف ثقافياً وسياسياً أو بلون جلده. الغير هو الموجود في الخارج والداخل. تفيد الإشارة الى الغير في الخارج من أجل الإشارة الى الغير في الداخل. يجب إزالة الغير في الداخل وإخراجه أو بناء الجدار بين الأطهار والأشرار. ربما كانت الإشارة مفيدة الى أن والد ترامب كان من الكلوكلكس كلان (عصابة البيض الأميركية التي يلبس أفرادها الرداء الأبيض وطربوش أبو حشيشة، وتحرق السود في الليل، وهي بالطبع ذات وجود غير قانوني في الولايات المتحدة، وإن كان وجودها الشعبي ما زال حاضراً). جدران العنصرية في الداخل والخارج، والجدران على حدود البلدان حين يكون ذلك ممكناً.
أبرز صفات الفاشية هي أنها تحكم بالأمر. حتى ولو جاءت للحكم بانتخابات ديمقراطية، فإن الزعيم لا يعرف سوى توجيه الأوامر. يكره من ينتقده. يبتعد عن الحوار. لا يحب التسويات. خطايه جمل متقطعة. يردد الجملة أكثر من مرة. ليس فقط لأنّ أفكاره متقطعة، بل أيضاً لأنه يفترض السامع على قدر قليل من الذكاء ويحتاج في تعليمه للتكرار. التكرار يعلّم الحمار، كما يقول المثل. الزعيم هو الوحيد المنقذ، كما قال ترامب عن نفسه عدة مرات. هو الوحيد الذي يعقد صفقات القرن. كل ما يفعله أحداث تاريخية. غير ما جاء في الماضي. أحداث تعيد رسم تطوّر التاريخ. أوامر ترامب لم يستسغها قادة أوروبا، فإنصب جام غضبه على حلفائه من قادة حلف الأطلسي. يجد الدفء في العلاقة مع رئيس الوزراء الهندي سينغ (اليمين المتطرّف) ونتانياهو الغني عن التعريف.
يبدو أن تخبّط ترامب جزء من بنية عقلية هي العقلانية الفاشية. ليست لا عقلانية، وليست تخبطاً في الرؤى والنظرات. يعتقدون أنهم يستطيعون إعادة تركيب العالم. ما يبدو لاعقلانياً هي العقلانية الفاشية؛ عقلية الحكم بالأمر لا بالسياسة والحوار. عقلية الاستعلاء على الآخرين من الدول واعتبار أن مهمة كل واحدة منها تطبيق السياسات الأميركية حول الدفاع والتبادل التجاري وغيرهما؛ عقلية تعتبر أن بقية البشرية مخلوقة من أجل الولايات المتحدة (بالطبع الولايات المتحدة مخلوقة من أجل رئيسها ترامب)؛ عقلية تعتبر أن اقتصادات الدول الأخرى تخضع لمتطلبات الاقتصاد الأميركي؛ عقلية تعتقد أنها تعلي من تشاء وتدفع للأسفل حسب مزاج قيادتها؛ عقلية تضرب عرض الحائط بما تدعيه من سياسة حقوق الإنسان عندما تعادي أو تصادق دولة أخرى تفاوضها. هي في الحقيقة لا تفاوض بل تفرض نهجها.
مازالت الولايات المتحدة تعتقد أنها تفرض نهجها، وتفرض تنفيذ أوامرها بالقوة. قوة ليست نابعة من التفوّق الاقتصادي الإنتاجي، فهي تتوازى مع أوروبا والصين في ذلك. ما زالت تتمتّع بالتفوّق العسكري في مواجهة العالم كله. وما زالت تتمتّع بالتفوّق المالي رغم الديون الهائلة (ديون الأفراد، وديون الشركات، وديون الدولة). تفوقها المالي ناتج من كونها هي التي تطبع عملتها. وهذه العملة هي قدر العالم. وكل التحويلات من دول العالم تمر عبر مصارف نيويورك.
جعلت الولايات المتحدة نفسها مركز العالم. لكنها لم تعد سيدة العالم. ما زال لديها قدر من القدرة لتمارس الديبلوماسية، أي التفاوض الذي يمنحها المركز الأوّل في العالم؛ لكنها أحلت ديبلوماسية الأمر مكان ديبلوماسية التفاوض؛ تعتبر التفوّق مصدر تميّزها. وتميزه مصدر فرادتها. فرادتها مصدر علو شأنها الأخلاقي (مدينة على جبل). ديبلوماسية الأمر لديها تصير شأناً أخلاقيا، وضرورة أخلاقية. ليست بالنسبة لها وحسب، بل بالنسبة للعالم. من لم يخضع لأوامرها الصادرة عن تفوّق أخلاقي لديها يصنف من الأشرار وتحل عليه العقوبات. كأي جماعة دينية تفرض الحرم أو الإبعاد من الجماعة. كل من تعتبره الكنيسة هرطوقياً أو خارجاً عن الإيمان. البلدان الأخرى بالنسبة لها خوارج لسبب بسيط هو أنها ليست متشابهة مع أميركا ولا تخضع لأوامرها. وتراعي مصالحها أولاً هي أيضاً. شعار أميركا أولاً عند الرئيس الأميركي يعني أن أميركا وحدها تقرر. وأن قرارها ضرورة أخلاقية. الأشرار هم من يخالفون الأوامر الأميركية. مستشار ترامب أفسح مكاناً خاصاً في الجحيم لرئيس وزراء كندا، لا لشيء إلا لأنه ارتكب خطيئة المخالفة، التي كانت بالفعل موافقة على ما ارتأته مجموعة السبعة، علماً بأنّ الولايات المتحدة عضو فيها.
هي حرب إرهاب تشنها الإدارة الأميركية على العالم. ما يُسمى الحرب على الإرهاب (على مستضعفي الأرض الذين يحتجون لسبب أو لآخر، بطريقة لائقة أو غيرها) هي في حقيقتها حرب إرهابية تشنها السلطة التي تحكم بالأمر؛ بالأحرى ما زالت تتشبّث بحكمها للعالم في أوضاع متغيرة. قوة التغيير الأولى في العالم اليوم هي الولايات المتحدة. يتطوّر العالم اقتصادياً واجتماعياً، وحتى ثقافياً وسياسياً، باتجاه؛ بينما تريد السلطة الأميركية أن يكون التغيير باتجاه آخر. العالم يسير نحو تعدد الأقطاب، والسلطة الأميركية تريده ذا قطب واحد.
تخفي حرب الإرهاب الأميركية عنصرية غير مسبوقة. تعتبر أنها هي نفسها تجسيد الخير. وكل ما عداها عالم الشر. لا أقصد هنا العنصرية المبنية على فرضية العرق واللون والبيولوجيا. الرئيس الأميركي السابق أسود البشرة. هي عنصرية مبنية على الحق والخير والجمال؛ مصدر هؤلاء جميعاً هو الولايات المتحدة. ما عداها من العالم يفتقد الى هذه الصفات. على العالم خارج الولايات المتحدة إذن أن يتبع أوامرها. عبودية من جديد؟
تنشر بالتنسيق مع مدونة الفضل شلق