طلال سلمان

هل تسمحون لضحاياكم بدولة ولو لشهر

نضب حبر المراثي، وتهافتت كلمات إدانة القتلة المجهولين ـ المعروفين، وباخت الاتهامات المطلقة من الكل ضد الكل أبناء الطبقة السياسية بالتواطؤ مع سفاحي السيارات المفخخة ورمي كل طرف «الآخرين» بالخيانة وارتكاب المجازر الجماعية.
بالمقابل، تكاثرت وتوالدت الأسئلة المعلقة التي تدور في الأذهان بحثاً عن جواب بعيداً عن لغة ممتهني الاتجار بالجثث والدماء المسفوحة ظلماً وعدواناً لأغراض مموّهة بالسياسة، في حين أنها «طائفية» تستدرج ردوداً من الطبيعة ذاتها وتستولد مناخ الحرب الأهلية بالفتنة.
في الضاحية ـ الضحية جنوبي بيروت ـ الأميرة، مرة أولى قبيل الظهر ثم مرة ثانية، أمام محرابي الإيمان في طرابلس والميناء، دفعة واحدة وعند رفع الأذان لصلاة الظهر.. فإلى هدف مقدس جديد (قد يكون كنيسة)، يتجوّل القتلة بسياراتهم المفخخة بشحنات إعدام المصلين والعابرين والمتسوقين وربات البيوت العائدات متعجلات لإعداد وجبة الغداء (أو العشاء، لا فرق) للعائلة الموزّع أفرادها على أبواب الرزق.
تمتلئ الساحات والشوارع وأبواب المساجد بأشلاء الرجال والنساء والأطفال، وتكتب الدماء على الأرصفة صفحات جديدة في سيرة الإرهاب الذي لا يجد من يوقفه أو يحد من مجازره بكشف السفاحين، بعيداً عن الاتهامات السياسية التي لا تفيد إلا في رفع منسوب الاحتقان والغضب المكبوت وتضليل التحقيق وطمس الوقائع التي قد تكشف المدبرين والمخططين ومن ثم المستفيدين من توظيف الدم المراق ضد ضحاياه على اختلاف توجهاتهم السياسية.
ماذا بعد توصيف المآسي التي تصيب الوطن في قلبه وتنبّه إلى الغياب المفجع لدولته التي تتبدى مشلولة لا يملك مسؤولوها إلا المزايدة على ذوي الضحايا في إظهار الأسى و«الوعد بمعاقبة المخططين والمنفذين» من السفاحين الذين ارتكبوا (وسيرتكبون) المذابح المتوالية وكأنما ضمن برنامج له من يرعى إنجازه.
بين حكومة أقالها العجز عن الإنجاز، وحكومة يمنع تشكيلها الأمر الملكي الذي حدّد مهمتها المستحيلة بافتراض أن «الزمان قد تحوّل» وأن «المرجعية قد تمّ نقلها من دمشق (أو طهران!!) إلى الرياض «وليس على الرعية في لبنان إلا التنفيذ بغير نقاش أو اعتراض.
.. ومجلس نيابي يمنع التواطؤ على شل انعقاده (إلا للمصادقة على التمديد لأعضائه الغائبين عن التأثير وعن القرار وعن التشريع، بطبيعة الحال).
… وإدارة رسمية مشلولة إما بفراغ المواقع القيادية، وإما بغياب القرار غير القابل للمساومة والتسويف والاعتذار بإفلاس الدولة!
وهكذا لا يبقى غير الجيش الذي طاله شيء من الامتهان عبر النقاش البيزنطي حول التمديد لقائده في ظل تعذر التوافق على بديله، ومن قبل على رئيس للأركان غير القائم بالأمر، مع الإشارة إلى أن المجلس العسكري ما زال غير مكتمل النصاب لتعذر التوافق الطوائفي على موقع القرار في المؤسسة الوحيدة المستمرة في أداء واجبها بإمكانات تكاد تكون مهينة.
[ [ [
سهل القول إن معظم دول المشرق العربي تكاد تتهاوى في غمار الحروب الأهلية التي وسّعت مساحة الحركة أمام التنظيمات الإرهابية التي تنسف المساجد باسم الدين الحنيف، وتقتل المؤمنين الحاملة جباههم آثار السجود، وتوصيفهم بالكفرة وأتباع الشيطان..
وسهل أيضاً القول إن هذه التنظيمات تملك خزاناً لا ينضب من الانتحاريين والقتلة المحترفين الذين يتصرفون وكأنهم ممثلو الإرادة الإلهية على الأرض ولهم حق القرار في من يستحق الحياة ومن لا بد من قتله تطهيراً للحياة الدنيا من الكفرة والزنادقة والخارجين على شرع الله،
سهل أيضاً وأيضاً الاعتذار بنقص الإمكانات والقدرات والأجهزة الحديثة التي توفر فرصاً أفضل للحد من هذه المذابح المنظّمة التي لا يفرّق منفذوها السفاحون بين «السنة» و«الشيعة» كما تؤكد جموع المقتولين، نساءً وأطفالاً وفتية أغراراً ورجالاً كانوا يهرولون إلى المسجد حتى لا يتأخروا عن الصلاة جماعة..
ولكن السؤال البديهي يظل هو هو: متى يشفق أركان الطبقة السياسية على هذا الشعب المسكين الذي لا يملك ولا يريد أن يملك خياراً في وطنه، وليس له من «رصيد» إلا حياته، فيوقفون استثماراتهم المجزية عبر الاتجار بأمنه فضلاً عن رزق العيال، ويتقاربون من مواقع زعاماتهم المصنوعة بعرق جباه «رعاياهم» وبسذاجتهم التي تلزمهم بإطاعة هؤلاء الذين عيّنوا أنفسهم أولي الأمر،
أما السؤال المتعذر تأمين الجواب الصحيح عليه فهو: إلى متى يظل اللبنانيون رعايا للطوائف وقياداتها التي تستغفلهم بل وتحقّرهم كل يوم وهي تصدح بتصريحاتها المتلفزة والمعمّمة بوسائط التواصل الحديثة وكلها تستثمر جريمة اليوم من أجل فتنة الغد التي يرون فيها «الجائزة الكبرى».
وفي انتظار الجواب سيظل أبناء هذا الشعب الطيب إلى حد السذاجة برغم مهاراته التجارية، مستكينين خلف «زعاماتهم التاريخية» يفتدونها بدمائهم إذا ما استطاعوا إنقاذ أرواحهم من تفجير سيارة مفخخة هنا، أو صاروخ يُطلق ـ عشوائياً ـ فيصيب من تصادف وجودهم في المكان.
[ [ [
ليس العذر أن لا دولة… فلو كان الشعب حاضراً ومؤهلاً لمحاسبة «قياداته المقدسة»، لحضرت الدولة، وانتظم عمل مجلس النواب، وتمّ تشكيل الحكومة الجامعة والمؤهلة، ولتم تمكين الجيش من مواجهة السفاحين قتلة ضحكات الأطفال والفراشات ونور الشمس وأسباب الحياة في هذا الوطن الصغير.
كيف السبيل إلى تحويل «لو» إلى «فعل أمر» بعودة الدولة إلى نصابها والقدرة على الفعل؟!
ذلك هو السؤال الذي سيظل معلقاً بينما تتوالى مواكب تشييع ضحايا الإرهاب المتجول والذي ثبُت أنه بريء من «الطائفية» بدليل أنه لم يفرّق بين السنة والشيعة ورعايا أديان أخرى قد يتصادف وجودهم في المكان المختار للمذبحة الجديدة.
هل لدى هذه الطبقة السياسية التي استنزفت البلاد في أرزاق أهلها وفي حياة أبنائهم بقية من إحساس تجعلهم يبادرون إلى صنع المستحيل: الحكومة القادرة على الإنجاز وبصلاحيات «حكومة حرب على الإرهاب لاستنقاذ من تبقى من اللبنانيين؟!
هل يسمحون بقيام الدولة ولو لمدة محددة ومحدودة، تتمثل في إنقاذنا من قتلة المجاميع… ولينعموا بعد ذلك بخيرات الزعامات من رزقنا وتعب الجباه حتى يوم القيامة!

Exit mobile version