طلال سلمان

هل اراحت قمم رفيق حريري ولماذا لم يخاطب سعد اهلة في جنوب

لنعتبر، من باب تفاءلوا بالخير تجدوه، أن القمم ـ ثلاثية وثنائية ـ التي شهدها لبنان، خلال الأيام القليلة الماضية، هي نهاية مرحلة التشكيك بالذات والاسترابة بالأخ الشقيق وافتقاد اليقين في ثوابت الوجود.
لنفترض، مستبشرين، أن قدوم العاهل السعودي والرئيس السوري معاً وفي طائرة واحدة، ومن دمشق إلى بيروت، يؤشر إلى «تفاهم عربي» على رعاية لبنان ومساعدته على الخروج من النفق المظلم الذي أدخلته إليه المناكفات العربية وانعكاساتها المباشرة على هذا الوطن الصغير، والتي استثمرت ـ في جملة ما استثمرته من عوامل الفتنة ـ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري..
في ضوء هذه الافتراضات، إذا ما صحّت، يمكننا أن نرفع الصوت بمطلب محدّد:
لقد آن لرفيق الحريري أن يرتاح في عليائه، شهيداً للوطن وليس لفئة، كبيراً تفتقده الأمة كلها وليس بعضها أو طائفة منها أو حزب أو تيار أو جبهة سياسية معينة.
آن أن ينتهي تعذيبه بقتله كل يوم، مجدداً، عبر الاستخدام اليومي الرخيص للجريمة المهولة التي أودت بحياته، وكادت تودي بلبنان وتفجّر علاقات العرب بالعرب، وتنزع ملامح العدو عن الكيان الإسرائيلي وتجعله «الشاهد بالعدل» أو محامي الدفاع أو ربما مصدر العدالة ومرجعها والناطق باسمها…
آن أن ينتهي هذا العبث المقصود بالشهيد وبالجريمة التي استهدفت لبنان، والتي مكّنت رئيس حكومة العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أن يستثمر الاتهام الرخيص للمقاومة ومجاهديها الذين أذلوا جيشه الذي لا يقهر، وأن يدخل ما فبركته آلة الدعاية الحربية الإسرائيلية في منظومته الدفاعية لإغراق «حزب الله» في الفتنة وتحويل اتهامه إلى مفجّر للحرب الأهلية في لبنان، بحيث تكسب إسرائيل حربها على اللبنانيين وسائر العرب، بلا قتال… وربما جاءت بعدها كقوة فصل بين الأخوة المحتربين!
آن أن ينتهي هذا التلاعب المكشوف بتفاصيل عن التحقيق تخلط، بقصد مقصود، الصح بالمزوّر والتقدير المغرض بالاستنتاج المشبوه، ومصالح «الدول» التي لم يُعرف عنها عشقها للعدالة مع العرب بعواطف المفجوعين بفقد المرجع والسند ورجل الدولة..
[ [ [
على امتداد أربع سنوات طويلة وولاّدة أوجاع، تواصل التركيز بالاتهام على سوريا، رئيساً وقيادة وجيشاً وأجهزة أمنية، وشنت حملة كراهية عنصرية على «السوريين» عموماً أودت بكثير ممّن جاءوا يزرعون أرض لبنان الأخضر ويعلون بناء الأبراج الباهظة الثمن في عاصمته التي لم تعد لأهلها.
وعلى امتداد أربع سنوات أطلقت حملات تشهير مقززة وشنت حملات تخوين ضارية على بعض مَن كانوا في مواقع المسؤولية القضائية والأمنية في لبنان، وعلى كل مَن قام بزيارة ـ ولو سياحية ـ إلى دمشق أو حلب أو حماه أو حمص أو اللاذقية، ولو بداعي المصاهرة أو تفقّد الأشقاء على الجهة الأخرى من «الحدود» التي سوّرت بالكراهية وأحكام الإدانة ـ بل التخوين الجاهزة…
ثم، فجأة، ومن دون سابق إنذار، تمّت «تبرئة» سوريا، دولة وشعباً، ورئيساً دوت بالنعوت المهينة لشخصه ولأسرته الساحات، وتحوّل بشار الأسد إلى مرجعية سياسية عليا، يطلب نصحه وتوجيهه، ويقصد إليه لترشيد القرار وتحديد الوجهة الصح!
فجأة، أيضاً، تمّ إطلاق بعض مَن سجنهم الغرض والحقد ومجافاة الحق، من دون محاكمة، تماماً كما اعتقلوا من دون مبررات مقنعة، وتمّ طمس قضية توقيفهم غير المبرّر لحوالى أربع سنوات، ومن دون تعويض عمّا نالوه من أذى معنوي ومادي ومن تشهير فضائحي طاول أسرهم وأقاربهم وأصدقاءهم وكاد يجعلهم «شركاء في الجريمة» أو متسترين عليها وعلى القتلة!
أما أمّ المفاجآت وأصل المحنة الجديدة التي تتهدد الوطن الصغير ليس فقط في وحدته الوطنية بل في شرفه وفي دماء المجاهدين وقد بذلوها دفاعاً عن وجوده وحماية لأرضه وكرامة شعبه، فتتمثل في تحويل مؤشر الاتهام إلى «عناصر غير منضبطة في حزب الله»… بما يدفع بالبلد إلى حقل ألغام يمتد بمساحته جميعاً، بما يؤمن تفجير الفتنة، وإشغال أهله في حرب أهلية لا تنتهي، بقرار إسرائيلي، وبما يخدم الأغراض الإسرائيلية، وأولها وأخطرها تسريع التصفية النهائية للقضية الفلسطينية.
لبنان أولاً… من أجل شطب فلسطين، هذا هو الشعار الإسرائيلي الراهن، وأمر العمليات المطلوب تنفيذه، وعبر حرب أهلية تخرج المقاومة في لبنان من ميدانها الأصلي، وتجعلها مشغولة بالدفاع عن نفسها كمطلوب في جريمة قتل يسهل تحويلها ـ أو يجري تحويلها فعلياً ـ إلى فتنة كبرى جديدة لخدمة إسرائيل… وضبط المنطقة ضمن مشروع الهيمنة الأميركية المفردة.
[ [ [
تبقى كلمة لا بد من قولها حتى لو أوجعت صراحتها:
لقد أضاع سعد الدين رفيق الحريري فرصة جديدة للمصالحة مع الوطن ومع شهيده المغدور والده الرئيس رفيق الحريري.
ذهب إلى الجنوب «زائراً صامتاً» ضمن وفد رسمي، ولم يغتنم اللقاء مع أهله فيه ليقول ما كان قاله ـ بالتأكيد ـ والده، شريك المقاومة في الإنجاز التاريخي الممهّد للنصر بإجلاء المحتل الإسرائيلي: تفاهم نيسان 1996.
لقد استقبله الجنوبيون بحرارة مَن انتظر طويلاً هذا اللقاء مع «ابن الغالي»، متناسين أنها زيارته الأولى لهم منذ التحرير، وبعد أربع سنوات من الحرب الإسرائيلية التي دمّرت مدنهم وقراهم وزادتهم رسوخاً في أرضهم لا سيما وقد انتصروا فيها، مرجئين العتاب إلى فرصة أخرى، حتى لا يفسدوا اللحظة الموعودة، متوقعين أن يسمعوا منه كلمات العائد بشوق إلى أرضه المطهّرة بدماء شهدائها، أهله، منذ ما قبل صيدا التي كانت الطليعة في مواجهة العدو وحادية مسيرة المقاومة منذ اليوم الأول لمواجهة الاحتلال.
… صيدا التي منها ومعها بدأ المشوار، وهي تدلك على الجهات التي صارت جميعاً جبهات: من هنا إلى جزين وها هو جبل صافي ومن خلفه جبل الرفيع ترتفع فوقهما رايات النصر، من هناك إلى النبطية وجبل سجد وعلي الطاهر، من هنا إلى الخيام ومدخلها سهلها مقبرة دبابات العدو، من هنا إلى مارون الراس والمعركة التي خاضتها الكتيبة المباركة ولما تنته إلا مع وقف النار… ومن هنا إلى بنت جبيل التي لم يتوقف أهلها عن استيلاد الشهداء من الشهداء ليحصنوها ويمنعوها عن العدو. وها هنا عيناتا التي سقطت بيوتها جميعاً وظلت إرادة المجاهدين خفاقة بأعلامهم حتى الطلقة الأخيرة.
كل الجهات جنوب، والجنوب راية الحرية للوطن جميعاً.
لقد كانت فرصة، يا دولة الرئيس ـ خلف الشهيد، لمصالحة مع الذات، قبل المقاومة والتحرير وبعدهما، لتعويض ما فات من تقصير بحق الأهل الذين لولا الدماء التي بذلوها لما بقيت دولة ورئاسات..
ومع التقدير للمبادرة القطرية فلم يكن جائزاً أن يذهب سعد الدين رفيق الحريري إلى أرض المواجهة مع العدو الإسرائيلي، وميدان هزيمة عدوانه، «مرافقاً صامتاً»، بدواعي البروتوكول، وأن يعود منه دون أن يسمع منه أهله كلمة طيبة تؤكد لهم أن الحريري الثاني ـ كما الأول ـ منهم وبعض أهلهم، بالولادة والدم والموقف، لا هو بزائر، ولا هو بعابر، بل هو مثلهم ابن الأرض ومشارك في حراسة الانتصار العظيم فيها وأبطاله الميامين، من قضى نحبه منهم ومن بقي وما بدلوا تبديلاً..
إن بعض الفرص لا تعوّض، يا دولة الرئيس…
وها هي إسرائيل لا تترك فرصة إلا وتنتهزها لزيادة الشقاق بين الأخوة ودفعهم إلى الاقتتال في الزمن الخطأ، وفي المكان الخطأ وتحت راية الأهداف الخطأ… ودائماً باستغلال دم الشهيد الذي كنا نتمنى وما زلنا نتمنى أن تكمل دوره الذي بلغ أوجه في الجنوب وعبر دماء الشهداء الذين حفظوا هذا الوطن الصغير ودولته المرتبكة.

Exit mobile version