الوحدة الوطنية أمنية غالية في مختلف الأقطار العربية حتى أن مهرها لا يدفع بالذهب الرنان بل بالدم المقدس يسفح رخيصاً..
في فلسطين، على سبيل المثال لا الحصر، كلف التفاهم على مبدأ حكومة الوحدة الوطنية انشقاقاً خطيراً بين أهل السلطة أنفسهم، رئيساً تسنده أكثرية موروثة ومتنافرة إلى حد التصادم، ورئيس حكومة جاءت به المصادفة المباركة لاعتماد الديموقراطية في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
ونتيجة للمكابرة والمعاندة ورفض كل طرف الاعتراف بالطرف الآخر شريكاً، وبحجمه الواقعي، تعذر على الحكومة التي جاءت بها الديموقراطية أن تولد مكتملة التكوين، كما تعذر على رئيس السلطة الذي يعتقد بأن التفاهم مع الاحتلال هو الأصل، لا يتسق مع التسليم بحكومة ترفض التعامل مع الاحتلال والخضوع لأحكامه التي لا ترد..
وهكذا وجد الاحتلال الإسرائيلي فرصة للتوغل داخل انشقاق الحكومة عن الرئيس ، والانتقام للفشل الذريع الذي أصاب جيشه الذي لا يقهر في حربه على لبنان بإنسانه وأسباب عمرانه والمقاومة فيه.
شن جيش الاحتلال الإسرائيلي حرباً من طرف واحد، على مخيمات اللجوء الفلسطيني في غزة. دمّر المرافق والبيوت، قصف المدارس والمساجد. جرف الأرض واغتال الأشجار المثمرة التي سقاها الفلاحون بعرق العمر. واستمر يقتل مع كل شمس، ضاغطاً بحصاره الدموي من أجل تفجير الخلاف السياسي بين أهل السلطة وأهل الحكومة في الشارع، وبالسلاح.
… وقبل ثلاثة أيام، ضجر الاحتلال من انتظار تفجّر الفتنة حرباً أهلية بين الفلسطينيين أنفسهم، فكان ذلك الخطأ المؤسف : إذ ركزت المدفعية قذائفها على مجمع بيوت لأسرة واحدة متسببة في انهياره على رؤوس أهله، فقتل ثمانية عشر فلسطينياً، بينهم ثمانية أطفال وثلاث نساء، وجرح أكثر من خمسة وأربعين.
وهكذا ارتفعت حصيلة الحرب الداخلية بين الفلسطينيين من أجل حكومة الوحدة الوطنية إلى أكثر من مئة شهيد وأربعمئة جريح عدا الخسائر في البيوت والأشجار والأخطر: في الروح المعنوية!
عندئذ فقط، تنبهت القيادات الفلسطينية في السلطة والحكومة إلى الضرورة القصوى في الاتفاق على حكومة الوحدة الوطنية، فجاءت بشائره أمس..
أما نحن في لبنان فقد وقعنا في المحظور بعد الحرب الإسرائيلية وليس قبلها..
لقد دفعنا أكثر من ألف وثلاثمئة شهيد، وخسائر في العمران
تقدّر بملياري دولار أو يزيد، وربحاً فائتاً يتجاوز الخمسة مليارات، و أعادتنا الحرب الإسرائيلية عشرين عاماً إلى الوراء في تقدير كبار المسؤولين..
مع ذلك فإن المطالبة بتعديل أو توسيع في الحكومة القائمة بما يجعلها قريبة من أن تكون حكومة وحدة وطنية ما زال يخضع لجدال حاد، وينذر بتحول الخلاف السياسي المحتدم إلى خصام فمواجهات في الشارع قد تبدأ وطابعها سياسي ثم تجد من يأخذها في اتجاه التصادم فتكون فتنة لا تبقي ولا تذر، ما لم يتنبّه القادة في اللحظات الأخيرة فيتوقفون عن اللعب بالنار.
تمّ ربط التعديل بالمحكمة الدولية. والمحكمة الدولية ما زالت مسودة قابلة للنقاش والأخذ والرد، حذفاً وإضافة، وعلى المستوى الدولي… إذ أن لكل دولة عظمى أو كبرى ما تخشاه من محكمة دولية تتصدى للجرائم ضد الإنسانية، أو لجرائم الإرهاب الذي وصل في بعض الحالات إلى الإبادة.
ومع أن الأطراف جميعاً مع المحكمة الدولية من حيث المبدأ، نتيجة حرصها الأكيد على جلاء الحقيقة حول من خطط ومن دبر ومن نفذ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ، إلا أن المطلوب الآن هو الموافقة على صيغة لم تقرها الجهة المعنية بها في الأمم المتحدة، حتى هذه اللحظة، لتتمكّن الحكومة وبعدها المجلس النيابي في لبنان من إقرار نصها النهائي الذي ينظم عملها.
هل يمكن، لتخطي المأزق، الاكتفاء بالموافقة المبدئية على المحكمة الدولية، (أقله في انتظار نصوصها النهائية).. والسير في تعديل الحكومة بأقصى سرعة، أخذاً بالاعتبار أن لا أحد يمكنه التهاون أو التساهل أو التفريط بدماء رفيق الحريري، الذي يعتبره اللبنانيون جميعاً، بل العرب جميعاً، شهيدهم و رجلهم الذي يفتقدون غيابه بكثير من الحزن، لأنه كان على امتداد حياته السياسية أحد كبار العاملين من أجل الوحدة الوطنية… قبل أن يدخل معترك تشكيل الحكومات الائتلافية التي يمكن أن تكون الآن نموذجاً أولياً للمطلوب؟!
فالاتفاق، كما تدل الشواهد، هو الصعب، أما الخلاف فليس أسهل من الاندفاع إلى خنادقه.. كما تدل الشواهد اللبنانية، بل العربية عموماً.