طلال سلمان

حكومة كامتحان في وطنية

تهاوت، إذاً، أوهام الإجماع »الأجمل من أن يكون حقيقيا« على شخص الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة، وعادت المواقف الفعلية لزعامات الأكثريات الطائفية والمذهبية المموّهة سياسياً إلى السطح، وهي عديدة، منذرة بفتح الباب، مجدداً، لأزمة الحكم في لبنان..
ويوماً بعد يوم تكتسب أخبار التشكيلة الحكومية العتيدة، في ظل المناخ السائد في »الشارع« بعد الممارسة الديموقراطية الفريدة في بابها في الانتخابات النيابية، »ملامح عراقية«، بمعنى سهولة تحويل الخلاف حول المناصب والمواقع والأحجام السياسية إلى مشروع فتنة مفتوحة بين الطوائف والمذاهب والأعراق والعناصر والإثنيات يضيع معها الوطن ودولته.
فلقد دمر الاحتلال الأميركي »دولة« العراق بذريعة إنقاذ شعبه من نظام الطاغية صدام حسين، وعمل على فرز الشعب الواحد إلى شعوب شتى لكل منها »إقليمه« بحسب هويته الطائفية أو العنصرية، تمهيداً لشطب الهوية الوطنية الواحدة وقضية الاستقلال الوطني، وجرى إشغال الناس عن حقهم المقدس في وطنهم ودولتهم جميعاً بحصة كل فئة منهم في قرص عسل السلطة..
.. وبين المبررات المعلنة للمجازر والمآسي اليومية التي سفحت دماء العراقيين فجرت بها نهراً ثالثاً في أرض الرافدين، عدم التوازن الطائفي والعنصري في تركيبة الحكم بالرئاسات ونياباتها والحكومات ووزاراتها، فضلاً عن مجلس الرئاسة و»المجلس الوطني« وسائر المؤسسات والإدارات.
أما في لبنان الذي أُخضع منذ فعلة التمديد، ثم بخاصة بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلى وصاية دولية معلنة لم تنجح إلا في زيادة مشكلاته احتداماً، فإن الأكثريات الديموقراطية شكلاً تختزن مشروعات طائفية متناقضة..
يدور سفراء دول الوصاية يومياً، وبلا تعب، على »المرجعيات« ليزجوا »النصائح« متجنبين ان تتخذ صيغة التوجيه، فيشيرون بعدم انتخاب »رجال العهد البائد!!« وإبعادهم عن المناصب القيادية، مع التنبيه بضرورة اختيار وزراء »موثوقين« لوزارات السيادة، والخارجية على وجه التحديد..
.. وانسجاماً مع هذه »النصائح« ترفع المرجعيات الطائفية عقيرتها وكل منها يطالب بحقيبة أو حقائب محددة لا يقبل عنها بديلاً.. وإلا استخدم حقه في »النقض« الفيتو فعطل قيام الحكومة، أو انه أضعف قدرتها على الانجاز، في أقل تعديل.
وفي غياب المشروع الوطني الجامع، تصبح الحكومة »حقوقاً مشروعة« للطوائف، وتنقلب الأكثريات من »سياسية« بشعارات توحيدية إلى »طائفية« و»مذهبية« لينتهي الأمر بمساومات تغتال الحكومة من قبل أن تبصر النور، فتفقدها فاعليتها وتُعجزها عن مواجهة المشكلات الهائلة التي تنتظرها في المجالات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وصولاً إلى بواخر الفيول التي لا تصل فتظل مصابيح الكهرباء مطفأة في بلد الإشعاع!
هكذا تصبح حقيبة »العدل« من حق طائفة معينة، بذريعة إخراج ملفات مطوية للفساد والمفسدين، كأنما للفساد دين، أو كأنما طائفة الوزير تحدد مدى علاقته بالعدل وروح القانون.
… وترفع طائفة ثانية صوتها مطالبة بحقيبة الداخلية، كأنما الأمن اختصاص لأبنائها، إن هم تولوه اختفى المجرمون والقتلة وتوارى في ظلمة الخوف خاطفو الأطفال ومدبرو الاغتيالات وتجار المخدرات الخ..
وتقول طائفة ثالثة بأن حقيبة التربية من اختصاصها.
.. وطائفة رابعة بأنها تحمل شهادة عليا في الطاقة وتوليدها ذاتيا!
.. وطائفة خامسة ترى انها طالما غُبنت في الماضي بإسناد حقائب ثانوية إلى ممثليها، وأنه قد آن الأوان، في ظل نتائج انتخابات الوحدة الوطنية، لانصافها بحقيبة من الدرجة الأولى.
.. وثمة طائفة أخرى تعترض على »حصرها« في وزارة الدفاع.
..ولأن »المالية« من شأن رئيس الحكومة الذي طالما تولاها فأدارها بكفاءة جعلته الشخصية الأقل شعبية في لبنان، فهي خارج البحث، حتى لو جيَّرها من طائفته إلى طائفة أخرى عبر من يراه أهلاً لثقته… فالثقة هنا تتجاوز الطائفية!
أما مع حقيبة الخارجية فالأمر مختلف جداً، إذ أنها تقع في دائرة الاحتكاك المباشر واليومي مع »الوصاية الدولية« بعواصمها البعيدة وسفرائها الأقرب إليك من أنفاسك، وعلى هذا فإن من سيشغلها لا بد ان يحظى بتزكية مباشرة، تحمل أختام الإدارتين الأميركية والفرنسية وربما أطراف أخرى وإلا…
الحقائب كلها مشرعة أمام ممثلي الأكثريات الطائفية جميعاً، ما عدا الخارجية فهي »مكمن السر« الذي لا يجوز ان يطلع عليه إلا من يمكن ائتمانه عليه، في هذه اللحظة الحرجة، وفي ظل هذه التطورات المتلاحقة والمفتوحة على المجهول التي تشهدها المنطقة العربية، التي ثبت بالدليل الحسي القاطع، أنها »منبع الإرهاب الدولي«..
على هذا فحقيبة الخارجية محرمة على كل من اعترض، علناً أو سراً، بالكلمة أو بالإيماءة، على القرار 1559 ومقتضياته اللبنانية..
والأمر يتعدى طائفة الوزير الذي سيحظى بهذه النعمة إلى مواقفه السياسية… فالمدان بتهمة »الوطنية« محرم عليه دخول قصر بسترس، سواء أكان مارونياً أم أرثوذكسياً أم سنياً أم درزياً فكيف إذا كان شيعياً لا يجهر بعدائه للمقاومة وحزبها الذي صنفته الإدارة الأميركية »إرهابياً«، وتعامت عن قوة تمثيله
الشعبية كما أثبتتها الانتخابات النيابية التي فرضت إجراءها بالأمر، ودون تأخير، وبالقانون المغلوط، وبرغم اعتراض قوى سياسية »حليفة« عليه؟!
تلك هي القضية..
لا يتصل الأمر بحقوق الطوائف، بل بالدور السياسي للحكومة العتيدة التي أعطى مئة وستة وعشرون نائباً أصواتهم لرئيسها المكلف، ثم عادوا بمواقفهم السياسية يسحبون منه هذه »الثقة« المشروطة ببرنامج حكومته العتيدة.
كل حقيبة وزارية هي شحنة متفجرة في غياب البرنامج السياسي لهذه الحكومة التي تولد من قلب الصعوبة لتواجه أوضاعاً بالغة التعقيد والخطورة.
وما قيمة الوحدة الوطنية بالشعارات إذا كان رافعها خاضعاً بالرغبة أو مُخضعاً بالمصلحة لمشروع مشبوه لا يخدم إلا الوصاية الأجنبية (وإسرائيل التي ما زالت حتى بالمعنى القانوني عدواً) ولو عبر فتنة لا تبقي ولا تذر.
… وفؤاد السنيورة، المتحدر من مناخ »قومي عربي«، يعرف بالتأكيد معنى الوصاية الدولية وكلفتها على بلد متهالك في اقتصاده وفي بنيانه السياسي، مثل لبنان.
الحكومة امتحان في الوطنية أيضاً، وليس في الكفاءة الإدارية فحسب..

Exit mobile version