كان منظر الإجماع في الاستشارات بهياً بما يتجاوز الخيال…
كان أجمل من أن يكون حقيقياً! وها هي »البشاعات« التي أخفيت تحت قناع الترحيب الحار بالمرشح الذي أعطي لقب »دولة الرئيس« من قبل أن تبدأ »الاستشارات«، تتبدى تدريجياً لتمنع الولادة الطبيعية لحكومة الوحدة الوطنية العتيدة، وكلاهما مستحيل!
لا يولد الصح من الغلط، ولا يعطي الشوفان قمحاً..
ولكم هو ساذج مَن كان يفترض (أو يتمنى!!)، أن انتخابات عرجاء ستولد حياة سياسية سوية.
فالانتخابات النيابية قد جرت، بداية، »بالأمر«… و»الأمر« لم يسمح بأي تعديل للقانون الأشوه الذي أنكره »واضعوه« والمستفيدون منه قبل معارضيه (العلنيين منهم والسريين!!)… وفي موعد اعتبرته الوصاية الدولية »مقدساً«، وفي ظل مناخ من الشحن الطائفي والمذهبي لم يشهد لبنان مثله حتى وهو غارق في وهدة الحرب الأهلية..
مَن يستغرب أن تكون »المفاوضات« حول الحكومة العتيدة هي هي المدخل إلى تثبيت ما أفرزته الانتخابات الإجبارية من مواقع وأحجام لزعامات الطوائف والمذاهب؟
ومع أن اللبنانيين يحبون أحاديث المعجزات، ويقصدون أي مكان تجري الألسنة بذكره وكأنه مصدر للتبرك والشفاء، جداراً كان أو شجرة، فإنهم في السياسة »واقعيون« جداً: لكل طائفة حقوقها ولكل زعيم حصته..
الأطرف أن للزعامة في هذه اللحظة، مصدرين متناقضين:
مَن »قنص« حصة كبيرة من الحكم لجماعته هو زعيم عظيم!
ومَن رفض المعروض وخرج أو أخرج نفسه من التركيبة هو زعيم أعظم!
وهكذا فإن الجنرال الطامح لأن يشغل فراغ الزعامة في طائفته قد أعطى نفسه حق النقض (الفيتو)، فصار »طرفاً مقرراً«: إن أعطوه ما يطلب أقروا بأنه وحده يعادلهم مجتمعين، وإن رفضوا تبدوا وكأنهم الطائفيون الذين يرفضون برنامج الوحدة الوطنية الذي يختزله بشخصه.
ثم إن الجنرال جنرالان: الأول مستضعَف يظهر استعداده للقبول بأي شيء يُرضي »المنتصرين« عليه في الشارع، والثاني مستقو بالشارع المضاد، يتخذ من »رفيق سلاحه« درعاً، محتفظاً بالسيف في يده، باعتباره الوريث الشرعي الوحيد! إذا ما أحسن اختيار التوقيت المرتبط باحتياج الآخرين إلى الزعيم في طائفته ليكون رئيس الرؤساء!
إن جنرال بعبدا هو شريك جنرال الرابية في الربح.. فليس عنده، بعد، ما يخسره، لكنه هو حصان شريكه خصمه، أمس، كي يربح به غداً.. بوصفه البديل الشرعي!
ومن الصعب أن تقوم حكومة يحاربها الجنرالان معاً، ومن خلفهما مَن يرى في خسارتهما إجحافاً بحق الطائفة جميعاً واندفاعاً في »أسلمة« الحكم بعد »أسلمة« الانتخابات، لاستنفار العصبيات بحيث يصعب على خصوم الجنرالين في الطائفة القبول بدخول تفاحة الحكم مقابل الطرد من جنة الطائفة.
إن شعار حكومة الوحدة الوطنية مغلوط من أساسه،
فليس في البلاد وحدة وطنية كي تكون لها حكومتها.
وقد يكون ضرورياً التخلي عن الأوهام ومحاولة تخفيف الأضرار التي ستتسبب بها هذه الحكومة التي لن تكون »استثناءً«، ومن الظلم تحميلها عبء اجتراح المعجزات، بينما المعجزة هي أن تعلن في أسرع وقت… لأن الوقت استثمار.
والاستثمار، أيضاً، دولي..
والدول بدأت تظهر ضجرها من لبنان، بعد أن أوشكت على الغرق في تفاصيله المتفجرة التي لا تنتهي، والتي تأخذ إلى الفتنة تحت شعار السعي لبناء الوحدة الوطنية!