مع اغتيال إسحق رابين، ولمناسبة التشييع وعبرها، باشر الرئيس الأميركي بيل كلينتون سعيه المكثف لإقامة »الحكومة الدولية لإسرائيل« مستنفرù العالم كله تقريبù، بمن فيه »مَن يرغب« من العرب،
بعد غد الأربعاء، وفوق الأرض العربية، شرم الشيخ، سيجري الاحتفال بإعلان قيام هذه »الحكومة الدولية لإسرائيل«، وسط حشد من رؤساء العالم يصعب في العادة جمعه بهذه السرعة الاستثنائية، وبحضور إلزامي »للمسالمين« العرب،
أما الخميس فلسوف يفتح العالم عينيه على مشهد تاريخي فعلاً: مباشرة هذه »الحكومة« مهامها على الأرض، في القدس المحتلة، حين يتقدم بيل كلينتون إلى مقعد الرئاسة المهيب للمجلس الوزراي المصغر لحكومة شمعون بيريز.
في تشييع رابين كانت مهمة هذه الحكومة الدولية العتيدة تتركز على أمن إسرائيل كدولة واستقرارها كمركز للإقليم الذي نزعت عنه هويته الأصلية (العربية) وأعطي اسم »الشرق الأوسط« لتعميم الهجانة وفتحه كأرض فضاء أمام القادر على أخذه،
أما في »عمادة« شمعون بيريز كزعيم جديد، فإن »الحكومة الدولية لإسرائيل« التي سترى النور في شرم الشيخ المصرية بذكرياتها الثقيلة ، ستعلن أنها مسؤولة أيضù عن أمن الإسرائيليين فردù فردù،
أما من »العرب« فهي لن تكون مسؤولة إلا عن أصحاب التواقيع على المواثيق الإسرائيلية بدءù بكامب ديفيد وصولاً إلى وادي عربة، مع تخصيص ياسر عرفات بمكانة خاصة نتيجة لدوره الاستثنائي والتاريخي باختزاله فلسطين (أرضù وشعبù ومؤسسات) في شخصه: يحضر فيختفي الجميع، ويختفي فتحضر فلسطين جميعù.
»الحكومة الدولية لإسرائيل« برئاسة بيل كلينتون، وعضوية كل من جاك شيراك وهيلموت كول وجون ميجور وسليمان ديميريل وبوريس يلتسين وأكثر من عشرين رئيسù آخر، هذا عدا عن السلاطين والأمراء والمشايخ العرب…
وليست هذه وصاية دولية على إسرائيل، بل هي أقرب لأن تكون وصاية إسرائيلية على العالم أجمع،
فرئيس حكومة إسرائيل، كما تبدى في مناسبتين لا يفصل بينهما أكثر من مئة يوم، هو ملك الملوك، رئيس الرؤساء، قائد القادة، أمير الأمراء، شيخ المشايخ في العالم كله: يأتون بالقلنسوة وأشرطة الحداد ودموع الحرقة والزوجات النائحات إن هو سقط سريعù بيد حارسه،
.. ويأتونه كدعاة ومسوِّقين ومروِّجين وناخبين أو متطوعين للعمل في ماكينته الانتخابية، إن هو واجه وضعù داخليù حرجù وافتقر إلى الأصوات اللازمة للفوز، سواء داخل »حزبه«، أم على المستوى الإسرائيلي العام!
لكأن بيل كلينتون يطلب أن يترقى من »رئيس الولايات المتحدة الأميركية« إلى منصب رئيس حكومة إسرائيل… أو لعله يطمح لأن يجمع بين اللقبين الخطيرين على طريقة »ملك بريطانيا وأمير ويلز«، أو لعله يختصر الطريق إلى الموقع الممتاز: قيصر القرن الحادي والعشرين!
* * *
»الحكومة الدولية لإسرائيل« بدلاً من »مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط«.
فقمة الارهاب في شرم الشيخ ليست بحاجة لأن تنعي مؤتمر مدريد. إنها البديل، وما فات مات، ولقد اختلفت المهمة مما يستدعي اختلاف الأداة: سلامة إسرائيل الدولة، وسلامة الإسرائيليين، كل الإسرائيليين، هما المهمة، فإذا ما تمّ تأمينها قام السلام، وإلا فسلام على السلام!
بعشرات الألوف من القتلى والضحايا العرب أمكن، بالكاد، الوصول إلى مؤتمر مدريد، الذي شكّل للحظة احتمالاً بتسوية اضطرارية للصراع العربي الإسرائيلي،
وبأقل من مئة قتيل إسرائيلي بات ضروريù التخلي عن كل شيء والاهتمام فقط باغتيال »الانتحاريين« قبل أن ينتحروا، ومنع اليائسين من تفجير يأسهم بمن حرمهم الأرض والهوية والحاضر والمستقبل والحق في الحياة.
إن العالم الذي لم يهتم أبدù لحياة الفلسطينيين (والعرب عمومù) يجتمع الآن لمطاردتهم ومنعهم من »اختيار« طريقة موتهم!
إن الممنوعين من الحياة اللائقة بالإنسان ممنوعون أيضù من الموت بالطريقة التي يرونها ملائمة للتعبير عن احتجاجهم!
* * *
الراعيان هما الراعيان، ولا يهتم أي منهما بتبرير اختلاف موضوع الرعاية،
وأوروبا التي منعتها الصلافة الأميركية من المشاركة في مؤتمر للسلام يعقد فوق أرضها، ويتصل بمنطقة طالما تقاسمت معها صفحات التاريخ، تأتي صاغرة لتظهر في صورة الحكومة الدولية لإسرائيل، مع وعيها بأن لا دور لها ولا رأي.
والعرب الذين منعوا في مدريد من أن يتمثلوا بوفد موحد، مجرد وفد سرعان ما ينقسم إلى وفود، يستدعون الآن استدعاءً جماعيù، ويطالَبون بأن يكونوا »وحدة متماسكة« وبأن ينتظموا جميعù في شرطة حماية الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم وإرادتهم، وإلا استعدوا عليهم العالم كله بقيادة حكومته الدولية الجديدة.
ما أطول المسافة من شرم الشيخ إلى شرم الشيخ،
وما أطول المسافة من مدريد إلى شرم الشيخ،
إنها المسافة بين السلام والانتحار الجماعي،
فمحاكمة أولئك الأفراد الذين يضحّون بأنفسهم اعتراضù على إلغاء حقهم في الحياة فوق أرضهم، تنتهي بإدانة جماعية لهذه الأمة وبوضعها تحت الوصاية الإسرائيلية مباشرة، بكل أرضها وبكل ملايينها وبكل حقوقهم كبشر.
إنها المسافة بين التسوية الاضطرارية وبين الاستسلام المفروض،
إنها المسافة بين »السلام العادل والشامل« وبين سلامة إسرائيل على حساب الجميع،
وإلغاء مؤتمر مدريد يحصر خيار »العربي« بين الذهاب إلى الإعدام بقدميه وبين أن ينتحر بقرار ذاتي لعل انتحاره يفتح الطريق في غابة القهر هذه لأجياله الآتين.
في شرم الشيخ، ووسط احتفال مهيب، ستعلن »الحكومة الدولية لإسرائيل« الوفاة الرسمية لمشروع السلام، في هذه المنطقة،
لكن عزاء العرب سيتمثل في هزيمة »التطرف« الإسرائيلي ممثلاً بنتنياهو الليكود وتأمين الفوز بأكثرية محترمة لبطل السلام شمعون بيريز.