لا تجد الطبقة السياسية، هذه الأيام، غضاضة في الاعتراف بأن تشكيل حكومة في لبنان، أية حكومة، هو أمر يتجاوز قدراتها ويحتاج إلى «تفاهمات» عربية ـ إقليمية ـ دولية، لا سيما إذا كانت الحكومة العتيدة المنوي تشكيلها هي «حكومة وحدة وطنية”.
لكأن تعبير «الوحدة الوطنية» في هذه اللحظة يتجاوز النطاق الداخلي، ويتجاوز بالتالي مضمونه الأصلي، ليشير إلى نوع من التوافق الخارجي المتعدد الطرف (عربي ـ إقليمي ـ دولي) على صيغة ما، محددة ومؤقتة، لإقامة حكومة ما في لبنان.هي «وصاية» فعلية، ولكنها بأكثر من رأس.
من هنا صعوبة استيلاد حكومة الوحدة الوطنية العتيدة، لأن لكل طرف معني «بالوضع» في لبنان مصالحه «المشروعة»، ولا بد من صياغة عبقرية توفق بين هذه المصالح مستبقية للقوى السياسية في لبنان صورة الشريك في القرار، ولو بنسبة محدودة تكفي لأن ينجح في تغطية «التواطؤات» بشعارات السيادة والحرية والاستقلال.
الأهم: أن تحفظ له موقعاً لشعاره الأثير «لبنان أولاً” !
وهي نكتة سمجة أن يُقال إن لبنان يمكن أن يكون «أولاً» في قلب الصراع فيه وعليه بين قوى دولية وإقليمية وعربية تتنازع النفوذ في هذه المنطقة الغنية بأسباب التفجّر وبينها الديني والمذهبي والعرقي وفوقها جميعاً موارد الطاقة التي تكفي لإشعال العالم جميعاً.
ممّا يهون على اللبنانيين هذا الواقع المرير أن حالتهم ليست فريدة في بابها، وليسوا فيها استثناء… فغالبية الدول العربية سبقتهم إلى التسليم بوصاية دولية ما، قد تكون شاملة، وقد تكتفي بأن تمسك بزمام القرارات الاستراتيجية: الحرب والسلم، التحالفات السياسية، التوجهات الاقتصادية ومجالات توظيف الثروات الوطنية… فضلاً عن ضمانات ثبات النظام، مهما اشتدت عليه أعاصير المعارضات أو النقمة الشعبية.
ويستطيع اللبنانيون الادعاء، حتى هذه اللحظة، أن «العدو الإسرائيلي» لمّا يصبح شريكاً كاملاً في القرار، رسمياً، وإن كان له وجوده المؤثر، عملياً.
[ [ [
ليست كارثة وطنية أن يتأخر تشكيل حكومة، الكارثة أن تغرينا «الدول» بتجاهل التحولات السياسية والديموغرافية والاجتماعية في المنطقة من حولنا، ثم داخل لبنان ذاته، وأن نظل نلوي عنق المستقبل لكي يتحكّم به الماضي فنعيش خارج زماننا، ونهوي من الصراع السياسي المشروع والذي له قوانينه المعروفة إلى حمأة الصدامات ذات الطابع الطائفي والمذهبي، بما يحكم على جميع الأطراف بالهزيمة، ويجعلهم مجرد بيادق في صراعات إقليمية ودولية هم أضعف من أن يؤثروا فيها أو يبدلوا وجهتها ونتائجها بما يخدم وطنهم الصغير ووحدته التي تحتاج ـ في هذه اللحظة ـ لعملية إنقاذ سريعة وحاسمة هي: حكومة الوحدة الوطنية…
أما السفسطة حول المعادلات الكيمائية لهذه الحكومة، ومن يضمن من، وأي ثلث لأي فريق، وأين حصة الرئيس، وكيف نوفق بين ممثلي الأكثريات في طوائفهم وممثلي الأكثريات العددية في المجلس الجديد، فلا تعني إلا أن الطبقة السياسية جميعاً أعجز من أن تحكم…
هل من التجني القول: إن الجميع ينتظر إشارات من الخارج، لكي يتحرك في الداخل، وإن هذه الإشارات ستكون الدليل القاطع على أن الخارج قد حقق توافقاً ما على تقاسم مصالحه في المنطقة، وبين هذه المصالح «حكومة الوحدة الوطنية» في لبنان، التي ستأتي تشكيلتها جاهزة، كما في العهد الذهبي لما يسمى «الوصاية السورية».
الفارق الوحيد أن الوصايات قد تعددت وأن تلاقيها سيحسم المزيد من قيمة لبنان وشعبه العنيد وطبقته السياسية التي تتبارى في رفع الشعارات الاستقلالية، بل هي تزايد فيها حتى حدود العنصرية، في حين أنها جميعاً لا تملك غير خيار الانتظار لكي يقرر من بيدهم القرار فنخرج إلى الشوارع بتظاهرات الرصاص والمفرقعات لأن بعضنا انتصر بإرادة «الدول» على بعضنا الآخر التي خذلته «دوله»… إذ أن الصفقة تتجاوز لبنان وحكومة الوحدة الوطنية فيه، التي إن هي استولدت أخيراً فستكون أقرب إلى «هيئة الوصاية الدولية» على هذا الوطن الصغير… بزعم أنها مرجعية صراعاته الطوائفية والمذهبية التي ـ بسحر ساحر ـ سوف تنقلب إلى وحدة وطنية صلبة تجسدها حكومة فريدة في بابها.
أليس لبنان بلد الخلق والتجديد والابتكار والحداثة في الحداثة؟!
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 6 كانون الثاني 2007