في الأوطان الطبيعية، حيث الدولة هي التجسيد الحقيقي للاجماع الوطني على فهم واحد للماضي والحاضر وتصور موحد للمستقبل، لا حاجة لأن يصنف الوطن ويعطى مرتبة تميزه عن غيره بتأكيد عزته وفرادته.
من البديهيات ان يكون الوطن فوق النقاش. قد يظهر من يعارض النظام، الحكم، السلطة، وقد يظهر من ينزل إلى الشارع اعتراضاً على سياسة يعتمدها الحكم ويرى فيها «الجمهور» خطراً على الوطن…
بل قد تشتط السلطة في ممارساتها فتستفز قطاعات واسعة من الشعب، وقد تستعديه باعتماد سلوك يقدم المصالح الأجنبية على مصلحة الوطن فيتجمع المعارضون والمتضررون ممن يتلاقون على مبادئ مشتركة في جبهة سياسية تعمل لاسقاط الحكم باسم مصلحة الوطن… لكن ليس مألوفاً ولا هو من الطبيعي ان يقدم أي «مواطن» مصالح دول أخرى على مصلحة «وطنه».
في لبنان: «الدولة» هي شرط وجود «الوطن».
فلبنان كيان سياسي أقيم بالتوافق الدولي (العربي) وليس كنتيجة بديهية لإرادة «مواطنيه»… ومع الزمن صار «حقيقة سياسية» لكن «دولته» ظلت مرتهنة لذلك التوافق، ان هو اهتز اهتزت معه، وان هو ثبت وتوطد نعمت هذه «الدولة» بالاستقرار،
أما «النظام» فكان دائماً خارج النقاش! ولطالما تهدد وجود «الدولة»، أو انها «غابت» فعلاً، أوهي غيبت تحت ضغط «ظروف قاهرة»، ومع ذلك لم يهتز النظام، لا في فترات «الغياب الرئاسي» ـ وهي قد تكررت أكثر من مرة ـ، ولا عبر انشطار السلطة إلى «حكومتين»، ولا طبعاً عبر التمديد الآلي لمجلس النواب الذي كان «يختفي» من الصورة حتى إذا ما جاءت لحظة التوافق الدولي على «بعث» الدولة من رماد استنقاذاً للنظام الفريد تحول «المجلس» الناقص ثلثه إلى دائرة تصديق على الاتفاق الجديد كما جرى في مؤتمر الطائف 1989.
بهذا المعنى فإن شعار «لبنان أولاً» فارغ من أي مضمون، لسبب بديهي: ان ليس هناك «ثانياً» و«ثالثاً» الخ… فالأوطان، أو حتى الدول، لا تقررها «الامتحانات» وتعطيها «الدرجات» بحسب ما نالته من علامات الصح في الاجابات على الأسئلة المطروحة!
«لبنان أولاً»!. عظيم! برافو للهتيفة! ولكن انتخاب رئيس جديد للجمهورية احتاج إلى حرب سياسية دولية شاركت فيها عواصم كبرى ومتوسطة وصغرى كانت تملك مفتاح «كلمة السر»، وإلى مشروع حرب أهلية غيبت «الدولة» تماماً لكن «النظام» ظل صامداً، بحيث انه استعاد دورة حياته في قلب النار!
«لبنان أولاً»!. عظيمّ ولكن الانتخابات النيابية فيه احتاجت، بداية، ان تعيده إلى القرن التاسع عشر، وان تستعيد بعض ملامح «المتصرفية» التي لم تكن لا وطناً ولا دولة بأي معيار، كما احتاجت ـ مرة أخرى ـ إلى حماية دولية شاملة لهذا «التقدم» في بطون تاريخ الفتن والحروب الأهلية!
«لبنان أولاً»! عظيم! ولكن تشكيل حكومة جديدة فيه يتطلب سياحة سياسية بين العواصم القريبة والبعيدة، وبعضها يشاغب على البعض الآخر، ولكل منها مصالحها التي يشكل لبنان بعضاً منها…
والحكومة الجديدة، في هذه اللحظة، سياسة جديدة، والسياسة الجديدة تتناقض مع الشعارات المهووسة التي استولدت من رحم «ثورة الأرز» التي رفعت شعار «لبنان أولاً» في وجه اللبنانيين الآخرين، الذين لا يقلون تسليماً بضرورة هذا الكيان، وبنظامه الفريد في بابه، بكل عيوبه وعلله…
ثم ان الحكومة الجديدة تحتاج إلى «الآخرين» الذين كان شعار «لبنان أولاً» وعبر «ثورة الأرز» التي تصنفهم أعداء للكيان وللصيغة الفريدة، موجهاً ضدهم بالذات، يكاد ينفي عنهم صفتهم كلبنانيين، ومن ثم كشركاء في «الوطن» الذي اعتبرته «ثورة الأرز» ملكية خاصة لا شريك لها فيه… بل وصلت إلى حد اعتبار هؤلاء «الشركاء» أعداء يتجاوز خطرهم خطر إسرائيل ذاتها!
بل إن شعار «لبنان أولاً» لم يرفع مرة في وجه إسرائيل، فضلاً عن ان العديد من حملته والمروجين له كانت لهم علاقات وطيدة بإسرائيل، كادت تبلغ حد «التحالف»… هل من الضروري التذكير بدور الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع الرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط وسائر الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية في إسقاط «اتفاق العار» ذاك، «اتفاق 17 أيار 1983»؟!
هل من الضروري التذكير بمسلسل الحروب على انواعها التي كلفت سياسات الذين حكموا بهذا الشعار؟
ها هي حقائق الحياة تفرض نفسها، مرة أخرى، ومعها حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة، فإذا العلاقات مع سوريا شرط حياة، قد يختلف «السياسيون» على صياغتها، ولكن لا يمكن تجاوزها، خصوصاً بالنسبة إلى الآتي إلى الحكم حديثاً،
هل من الضروري التذكير بتجربة رفيق الحريري، ومن أي بوابة دخل إلى دست الحكم في لبنان، ومن وفر له التغطية السياسية المطلقة وبالتالي الفرصة لكي يحقق بعض أهم المشروعات التي كان يطمح إلى تحقيقها؟!
وهل من الضروري التذكير ان معظم الذين يحرضون اليوم، وتحت شعار «لبنان أولاً»، كانوا في طليعة المفرطين بالسيادة والاستقلال من أجل البقاء في سدة السلطة ولو ليوم إضافي واحد؟!
إن مثل هذه المزايدة الرخيصة التي تستهدف التشكيك في وطنية «الآخرين»، الذين سرعان ما يصنفون «أعداء» ويطردون من جنة هذا الكيان الهجين تصطدم بحقائق الحياة ووقائع السياسة في لبنان، خصوصاً وإن هذا الشعار لم يرفع طوال دهر الاحتلال الإسرائيلي، ولا هو رفع إبان حرب تموز وضد العدو الإسرائيلي، وإنما يرفع اليوم في وجه «الشريك الإجباري» الذي لا يقوم حكم ولا تكون حكومة من دونه.
هل من الضروري أن ندفع ثمن التجارب ألف مرة؟!
هل من الضروري أن نسمع ذلك كله من الخارج لكي نقبله؟!