لأول مرة في حياتي الطويلة (نسبيا) يثبت أن يقيني في أن اللبنانيين شعب، وشعب واحد موحد، وان نظامه السياسي الطوائفي في جوهره، قد فرض عليه الانقسام طوائف ومذاهب بتراتبية مؤكدة ومثبتة دستوراً وقانوناً تُغرق جمعه، وتضرب وحدته وتوزعه على قيادات مصنعة لا تحول ولا تزول، وكلما سقط منه جائر قام (أو اقيم) كابر..
لقد اصطنع “الكيان” في صفقة تقسيم المشرق العربي بين المنتصرين في الحرب العالمية الاولى، فكان “لبنان الكبير”، آنذاك، أي تركة “المتصرفية”، من نصيب فرنسا التي اضافت اليه المناطق والجهات التي كانت تحت الحكم التركي بعد، أي الشمال بعنوان طرابلس وعكار، والبقاع (ما عدا زحلة، ومعها الهرمل وشمسطار وبعض القرى الشيعية، بزعم أن اصول اهاليها كسروانية ومن بلاد جبيل، ولذلك كانت محكمتهم في جونية)، وبيروت التي كانت ولاية (وقد زارها الامير فيصل الاول ابن الشريف حسين حين كان الانكليز قد اختاروه ليكون اميراً على سوريا، إلى جانب اخيه الامير عبدالله الذي عينه البريطانيون اميراً على شرقي الاردن التي اقتطعوا ارضها، ايضا، من سوريا)..
.. ولقد هرب الامير فيصل من دمشق بعد معركة ميسلون التي استشهد فيها القائد الذي كان ضابطاً في الجيش التركي يوسف العظمة قبل أن يلتحق بالثورة السورية.. فما كان من البريطانيين الا اقتياد الامير فيصل إلى بغداد لتعيينه ملكاً على العراق (لا سيما وان بوادر النفط فيه كانت قد لاحت في الافق..).
وكانت بريطانيا آنذاك تهيمن على منطقة الخليج التي سرعان ما قسمت امارات قليلة السكان يحكم كل منها شيخ قبيلة، ويتقاسم مع اهلها الجراد في موسم انتشاره في انحاء تلك الصحاري قليلة السكان باعتباره النوع الوحيد المتوفر من اللحم!
هذا في حين طرد الشريف حسين من الارض التي تعرف الآن باسم المملكة العربية السعودية بقيادة الامير الذي صِّير ملكا عبد العزيز ال سعود بعد التثبت من احتمالات غنى ارضها بالنفط، الذي سرعان ما تولاه الاميركيون عبر شركة تابلاين.. وسيكون على الملك أن ينتظر 25 سنة قبل أن يلتقي الرئيس الاميركي روزفلت على ظهر بارجة حربية في البحيرات المرة في قناة السويس.
أقيم الكيان السياسي في لبنان، تحت الانتداب الفرنسي وبرعايته بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة في العام 1920، تحت قيادة الجنرال كاترو أحد “ابطال الحرب”، واقيم احتفال رسمي في قصر الصنوبر (منزل السير الفرنسي الآن) عند الطرف الغربي لحرج بيروت، شهده رجال الدين من مختلف الطوائف التي تمثلت بالبطريرك والمطارنة والمفتي وشيوخ آخرين.
أعطى الانتداب الفرنسي المراكز الاساسية في حكم الدولة الجديدة للمسيحيين عموما، وليس للموارنة بالتحديد الا بعد حين (كان الرئيس أرثوذكسيا شارل دباس، وكان بين رؤساء تلك المرحلة أيوب تابت البروتستانتي، قبل تعديل القرار وتخصيص الطائفة المارونية برئاسة الدولة، على أن يكون رئيس الحكومة (او الباش كاتب) سنياً.. وسيكون على الشيعة أن ينتظروا استقلال الدول في العام 1943 ليحظوا بمنصب رئيس مجلس النواب.. في حين تم توزيع الوزارات على الطوائف..
كانت الطائفية القاعدة ـ الاساس لقيام “الكيان” الذي سيصير “دولة” تحت الانتداب، قبل أن “تمنح” استقلالها في 22 تشرين الثاني 1943، وان كان الفرنسيون قد استمروا فيه، ثم جاء اليه البريطانيون مع نهاية الحرب العالمية الثانية ليعززوا نفوذ الجنرال ديغول الذي كان قد قام بانقلاب على حكومة فيشي التي عينها الالمان بعد احتلالهم فرنسا، وقد زارها ادولف هتلر مزهوا بانتصاره، قبل أن يهزمه “الحلفاء” بالقيادة الاميركية التي انزلت قواتها في النورماندي على الشاطئ الفرنسي في حين ضرب الطيران والبحرية الاميركية القوات الألمانية واجبرتها على الجلاء عن فرنسا مهزومة ثم تبعتها (مع الروس) إلى المانيا النازية حتى اسقاط هتلر فكانت نهاية الحرب..
منذ الاستقلال وحتى اليوم عرف لبنان رؤساء عديدون ومختلفون في توجهاتهم السياسية.
كان اميل اده أقربهم إلى فرنسا، وكان مرشحها للرئاسة الأولى. لكن القنصل البريطاني سبيرز (الذي يحمل اسمه الشارع الخلفي للقصر الجمهوري السابق في القنطاري) كان له رأي اخر..
هكذا، وفي آخر لحظة صدر القرار البريطاني بأن يكون الرئيس الاول للجمهورية الاستقلال الشيخ بشاره الخوري.. وهذا ما كان.
(للحديث بقية.. في هذه الايام التي يستعيد فيها لبنان وجهه وروحه بفضل الانتفاضة المجيدة ..)