الحيثيات بمعظمها صحيحة، لكن القرار خاطئ. إنه أشبه بالهرب من الميدان في زمن الحرب. فقيمة نجاح واكيم أنه مثّل في لحظات فاصلة عديدة صوت الضمير الشعبي، في الاعتراض على مواقف للسلطة اشتطت في الخطأ أحيانا إلى حدود الخيانة (اتفاق 17 أيار) أو أوغلت في تجاهل مطالب العدالة وتكافؤ الفرص وإنصاف المغبونين والمحرومين إلى حد دفعهم إلى الثورة المستحيلة فانتهت بأن زجت البلاد في أتون حرب أهلية مدمرة سنظل ندفع كلفتها الباهظة دهرا طويلا، وعلى مختلف المستويات.
ربما لهذا لم يفاجئ نجاح واكيم اللبنانيين بفضح العيوب والعورات والشوائب التي تحفل بها »اللعبة الانتخابية« الجارية فصولها أمام عيونهم التي فقدت قدرة التعبير عن الدهشة!
فالكل يعرف ان قانون الانتخاب غير سليم، وغير عادل، وأن ظروفا غير طبيعية و»قوى قاهرة« تفرض »اللوائح المعلبة« و»المحادل« و»البوسطات« وتزويج الذكر للذكر، ومداخلات السلطة و»الأجهزة«، والدور المتضخم بل والمتورّم لوزير الداخلية الذي يجعله في موقع »الحاكم العرفي«، بينما التوهم أو التمني أو »المنطق الديموقراطي« يفترض فيه دور الحكَم العادل والنزيه (وهو صنو الغول والعنقاء والخل الوفي) الخ..
الكل يعرف ويبتدع لنفسه المبررات للمشاركة، إما نتيجة الإحساس بالخطر على الوطن، وعلى النظام الديموقراطي، وإما بأمل التصحيح من الداخل، وإما بتوهم إمكان الاختراق وتأمين الوصول لأقلية فاعلة يمكنها أن تلعب دورا خطيرا في مواجهة النواب الأشباح أو الصامتين أو المغيِّبين أنفسهم، فتوصل صوت الناس ومطالبهم ومطامحهم وتحد من الخطأ حتى لو استحال الإصلاح الجذري المنشود.
ولقد كان نجاح واكيم نفسه نموذجاً لإمكان الاختراق، أو »الاستثناء الذي يؤكد القاعدة« منذ أن دخل المجلس النيابي، لأول مرة، في العام 1972.
كان الناس يحاولون ولا يكفون عن محاولة مواجهة الخطأ والاعتراض عليه، بتحدي السلطة أحيانا، وبتجاوز إغراءات »المال الانتخابي« أحيانا، بمواجهة الإرث العائلي أحيانا، والبحث عن الأقرب إلى أفكارهم وطموحاتهم ورفعه ولو غصبا عن السلطة إلى المقعد النيابي، ليكون أو ليحاول أن يكون صوتهم وليعبر عن إرادتهم.
نجاح واكيم كان في البداية نموذجاً لإمكان »الاختراق« والفوز ببعض المقاعد النيابية واستنقاذها من غيلان السلطة وأجهزتها ومن إغراءات مشتري النيابات بالوجاهة الموروثة أو بالمال الحرام المنهوب غالبا من الدولة وعبر استغلال النفوذ.
ربما لهذا لن يقبل الناس من نجاح واكيم موقف الانكفاء عن المواجهة الذي اتخذه بالأمس، مع تسليمهم بصحة بعض المبررات التي أعطاها لقراره، وخصوصا أنه لم يشاورهم فيه بل اكتفى بإبلاغهم وعزوفه عن معركة كان قد باشر خوض غمارها بدليل صوره ورفاقه في لائحته التي غطت بعض الشوارع والمناطق، وإن دلت على فقر أصحابها لأنها وحدها كانت بالأبيض والأسود.
لقد أعطت بيروت خصوصا، وأعطى لبنان بعامة، نجاح واكيم أكثر مما كان يطلب، بل ويحلم: فرضته بيروت نائبا وهو شاب »غريب« عنها وغير معروف فيها، ونصّبته مرجعا في وجه »زعاماتها« التقليدية، وتحدت به السلطة تقديرا لموقفه ولهويته السياسية الصريحة (ناصريته أو قوميته العربية)… ثم أعادت انتخابه مرتين، في عهد ما بعد الطائف، وكأنها تتحدى به وتحميه من المداخلات، لأنها كانت تفترض فيه قربا من ضميرها، مع اعتراضها على حدته التي تحجب أحيانا صحة منطقه، وعلى ارتجاله وتسرعه واندفاعاته الجموحة أحيانا أخرى، التي تستنفر كل القوى دفعة واحدة، ومن دون أن يكون ثمة مبرر لاستفزازها أو ثمة استعداد لمواجهتها مجتمعة.
لو أن القانون سليم، واللعبة الانتخابية صحيحة، والسلطة تمارس دور الحَكَم النزيه، والحكومة قادرة وفاعلة وعادلة، والأجهزة تحمي الحريات العامة وتصون حق الناس في الاقتراع وفق اقتناعهم (ومصالحهم)، لما كانت ثمة ضرورة لنجاح واكيم وأمثاله.. ولما كان الناس يندفعون لانتخاب أمثاله لاثبات وجودهم هم.
إن المعارضة ضرورة، ليس كزينة للحكم وأهل النظام، ولكن لاستحضار »الشعب« كحارس لحقه في الديموقراطية وفي العدالة.
ومن أسف أن نجاح واكيم قد وضع قراره في وجه ناخبيه أكثر مما في وجه السلطة التي كان حتى الأمس القريب بين سيوفها، انتقاما من العهد الماضي.
والمؤسف أكثر ان يكون نجاح واكيم قد اتخذ قراره بالهرب بينما بطل اتفاق 17 أيار يُستقبل بالمراسم الواجبة في قصور السلطة ويحتل شاشات التلفزة.. بمبررات بحت انتخابية!