لعل أحمد زويل لا يقصد، ولكن جولته وهو مكلل بغار جائزة نوبل في الأرض العربية التي وُلد ونشأ فيها، وفيها بدأ رحلته الباهرة مع البحث العلمي، قد حرّكت فينا المواجع، وأثارت فينا من مشاعر الأسى (على واقعنا) ومن الإحساس المفجع بصعوبة التغلب على موانع تقدمنا ما كاد يطغى على فرحنا بنجاحاته الممتازة وعلى زهونا به وهو يؤكد أننا لسنا محكومين بالتخلف ولا نحن ناقصو الأهلية قياسا إلى عالم التقدم والثورات العلمية التي تبدل في صورة الكون وتخضعه لعقل الإنسان بجزئياته كما بكلياته.
فهذا العالِم المصري المولد والنشأة والهوية، والأميركي الإنجاز، يقدم بغير أن يقصد أو يقول شهادة إدانة للنظام العربي الحاكم، مشرقا ومغربا، وعلى اختلاف أنماطه وأشكاله: جمهورية وملكية وبين بين.
أكثر من هذا وأخطر: ان تجربة أحمد زويل تتضمن إدانة صريحة أيضا للمجتمع المدني في بلادنا (هذا المسمى الغامض والذي يفتقد دوره وتأثيره على القرار) حيث تكثر الشكاوى والانتقادات وتغيب المثابرة والجهود المتواصلة وتتماهى الحدود بينه وبين السلطة فيذوب فيها غالبا أو يشاكسها من غير أن ينظم قواه أو يملك برنامجا واضحا يقنن فيه حقوقه وطموحاته.
وتجربة أحمد زويل وآلاف الآلاف من العقول العربية المهاجرة تكشف أيضا أن المجتمعات، بحكوماتها وهيئاتها المدنية، لا يمكن أن تحقق أي تقدم جدي، وفي أي مجال، إن لم يكن لها مشروعها السياسي الذي يحظى بالتأييد الوطني العام نتيجة التوافق على قدرته على حمل الآمال والتطلعات الوطنية والاندفاع بها وبعد توفير مستلزماتها كي تتحقق فتسهم في ردم هوة التخلف والانحطاط وتفتح الأبواب للانتساب الى العصر.
لقد شهدت منطقتنا أكثر من مشروع سياسي وطني أو قومي بالمعنى العام، أكثرها جدية وإنجازا مشروع جمال عبد الناصر في مصر، والذي أمكنه أن يقطع شوطا واسعا على طريق النجاح قبل أن ينتكس ويتم النكوص عنه بل وتشويه سمعته تمهيدا »للانفتاح« الذي خرب ما كان قائما وواعدا ثم لم يؤد إلى أفساد السلطة والمجتمع جميعا وهدر طاقاته الهائلة وتشريد ملايين المصريين طلبا للرزق (والسلامة أحيانا) في أي مكان في هذه الدنيا الواسعة.
ثمة مشروع سياسي علمي ثانٍ بدأ بحلم حوله الى فكرة توفيق الحكيم ثم حاول بعض الانظمة العربية ان يحقق الفكرة فحولها الى كابوس، وانتهى نهاية مأساوية تسببت باغتيال فرصة ممتازة توفرت لها من حيث المبدأ امكانات التحقق، لو ان من تحمسوا لها كانوا يثقون بالانسان العربي وطاقاته ولا يخضعونه لامتحان ولائه على مدار الساعة فإن ثارت حوله الشكوك طرد شر طردة او ادخل السجن او ادخل جنة السلطة وهي اقسى وادهى فتم تعطيله تماماً…
أما المشروع السياسي الثالث فقد حاول فيه نظام آخر بناء قاعدة علمية ممتازة طابعها الاساسي عسكري، فنجح في بنائها مبدئياً ولكنه وظفها لتحقيق طموحاته السياسية بأدوات حربية، فكان ان انتهى بتدمير بلاده والبلاد المجاورة، وانهاك الامة كلها، وتهجير معظم من تبقى من العقول والكفاءات العربية فشردوا في كل ارض توفر لهم المأوى والسلامة واضعين في خدمتها عصارة ما توصلوا اليه من انجازات علمية.
اننا، باختصار، نتقدم…الى الخلف!
وفي شهادة أحمد زويل نفسه ان مصر التي غادرها قبل ثلاثين سنة ونيف كانت أكثر تقدماً، وتملك قاعدة جيدة للتقدم العلمي، ومستوى طيباً في التعليم عموماً وفي الدراسات العليا خصوصاً، كما كانت مراكز البحث العلمي فيها تنجز ما يؤهلها لأن تواكب وتلحق بمسيرة العصر.
من يهتم بالتقدم العلمي، بالبحث العلمي، بمستوى التعليم، بانجازات العلماء والباحثين والدارسين؟! ومن يعنى بحفظ هذه الثروة الوطنية لبلادها وفي بلادها؟!
ان النظام العربي القائم، بأشكاله المختلفة، لا يحترم العلم والعلماء، عموماً، ولا يبدو معنياً بتعزيز مراكز الابحاث مفترضاً انه قادر على شراء النتائج جاهزة (كالثياب ووجبات الاكل السريع)، وقصور الحاكمين سعيداً (الشخصية منها والعامة) تتكلف أكثر من الجامعات بمعاهدها ومختبراتها ومراكز البحث فيها.
ان مخصصات أي متنفذ (فكيف بالمسؤول) تكاد تصل الى ميزانية جامعة!
ان مستوى التعليم يهبط بوتيرة متسارعة، في مجمل الدول العربية، من الابتدائي وحتى الجامعي، أما المعاهد ومراكز الابحاث فلا تجد من هو معني بتعزيزها الا كتكايا او مستودعات لبعض الموظفين (وعلى قاعدة القرب او البعد من مركز السلطة، هذا إذا ما نسينا المحاصصة الطائفية والمذهبية، في بلد كلبنان… حتى لا نعمم!!)،
نتذمر، ونتبادل الشكوى من تدني المستوى، ثم لا نفعل شيئاً.
لم يحصل اضراب واحد احتجاجاً على انخفاض مستوى التعليم، ولا تحركت تظاهرة غضب واحدة، ولم يفرض على المسؤولين (المشغولين عن مثل هذه الامور التافهة بمسائل اخطر!!)، ولم نسمع ان هيئات التدريس او النقابات المهنية ومن باب اولى »»مجالس الاهل«، اي اهل الطلبة، قد رفعت الصوت احتجاجاً، فضلا عن المجالس النيابية المحظور دخولها على العلماء)… وهكذا تستمر الجريمة بلا حساب، ولا يحاسب احد على تقصيره، وتكون النتيجة مزيداً من التدني في المستوى، واستطراداً: مزيداً من هجرة الادمغة، اضافة الى تكدس اشباه المتعلمين عاطلين عن العمل!
اننا ندفع ملايين الملايين من الدولارات لتهجير ابنائنا النابهين الى الخارج. نبعث بهم، (وغالباً طلباً للوجاهة والتمتع بالقاب »الدكتور« او »المهندس« او »خريج المعهد العالي للادارة) فلا يعود المبرزون منهم، اذ يجدونها فرصة للهرب من واقع بلادهم المتخلف، او تشدهم الاغراءات الشاملة التي تبدأ من نظافة الشارع ولا تنتهي عند مستوى التعليم ومستوى الانتاج والحياة الرضية، بل يشدهم نمط الحياة والباب المفتوح لكي يكملوا فينتجوا ويبدعوا ويحققوا ذواتهم.
لقد احطنا احمد زويل بمظاهر التكريم والمفاخرة بأصله العربي (وهذه ابسط حقوقه علينا)، متجاوزين حقيقة انه ما فاز بجائزة نوبل للفيزياء الا بوصفه عالماً اميركياً، والا نتيجة لعمله الدؤوب، على امتداد ثلاثين سنة، في جامعات ومراكز ابحاث ومختبرات اميركية، ولتوافر الظروف المناسبة (هناك!!) لتمكينه من تحقيق انجازه العلمي الباهر.
ان احمد زويل يدور في الارض العربية صارخاً منبهاً الى ضرورة الالتفات، ولو متأخرين الى اهمية البحث العلمي، وهو مؤمن اشد الايمان بامكان الانجاز، ويعرف ان في كل بلد عربي آلافاً من الشباب المؤهلين لكي يحققوا الثورة العلمية التي تؤهلنا لدخول العصر… ولكن كيف، ومن لهؤلاء يرعاهم ويعينهم حتى يعطوا ما يقدرون، فعلا، على ان يعطوه؟!
واحد زويل متمسك بايمانه: مصر قادرة، ولبنان الشاطر قادر، والعديد من الاقطار العربية التي تعرف اليها قادر… ولكن من تراه يسمع النداء فيؤمن، واذا آمن باشر بالعمل؟!
احمد زويل شخص خطر!
اذ ندر ان اجتمعت في شخص »عالم« ملكات كالتي يتمتع بها احمد زويل… فهو »يعرف« الكثير عن »الخارج« خارج دنياه التي لا نعرفها، ويتمتع بعقل سياسي وعملي يزيد من رصيده كباحث اوصله اجتهاده ودأبه ودقته العلمية وصبره العظيم الى ارفع مراتب التكريم الدولي نتيجة كشوفه الباهرة التي نعجز عن تخيلها فكيف باستيعابها وشرحها؟!
إن رحلة اندفاعه الى الأمام (والى فوق) تكاد تلخص رحلة التراجع العربي إلى الخلف، (وإلى تحت).
لقد كانت بلاده في وضع أفضل يوم غادرها منه يوم عاد إليها معترفاً لها بالفضل، ومتلقياً منها التقدير الذي يستحق.
لكنه عنيد، هذا »الفلاح المصري الفصيح«، وفي صدره إيمان الداعية، وفي عقله وعي المستنير.
لكننا نشك في أن يسمعه من يعنيهم الأمر، فكل من التقاهم من المسؤولين مشغولون بأمور أخرى كمثل الانتخابات النيابية، أو تعاظم خطر »الأصولية«، أو العجز في الموازنة، أو الخطر الآتي من الأخ القريب وليس من الخصم (أو العدو) البعيد… إلا بالجغرافيا والقدرة على الوصول بأسرع من الصوت!
عساني لم أضيّع، أنا بدوري، وقتكم بهذا الحديث عن رجل »اكتشف« الجزيء الذي يعادل واحدا على مليون من المليار من الثانية، بينما نحن نبحث يوميا عن الوقت لنقتله بالساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنوات والحقب؟!
آسف. فلنعد إلى ما كنا فيه من اهتمامات أعظم شأنا وأخطر أثرا على حياتنا!
طلال سلمان