شغلتنا على امتداد أسبوع بعض »التفاصيل« و»الحوادث العارضة« كثورة القدس في فلسطين بشهدائها المائة والثلاثين وجرحاها الخمسة آلاف أو يزيد نصفهم من الفتية والأطفال، والقمة العربية في القاهرة بكل ما عُلِّق عليها من آمال، عن تركيز الاهتمام على »القضية المصيرية« التي شغلت وما زالت تشغل الوسط السياسي في لبنان وهي: تشكيل الحكومة الجديدة، الثانية في هذا العهد، الأولى بعد الانتخابات النيابية وثمرتها الديموقراطية الشهية، المجلس النيابي الجديد.
كنا، كمواطنين من لبنان المقاوم، قد لقينا في منتديات القاهرة وأوساطها السياسية والثقافية والإعلامية، تقديرا عاليا أصابنا معه بعض الغرور، خصوصا وقد لقينا مثله ولو لأسباب أخرى في أوساط المشاركين في القمة ممّن تيسّر لنا لقاؤهم أو الاستماع إليهم ولو سريعا.. (بغير ان يمنع ذلك كله موجة من النقد الرقيق لوفدنا وكلمته المرتجلة التي لا يبررها عدم التوقع وبالتالي عدم الاستعداد بما يليق بوهج لبنان المقاوم وبإنجازه التاريخي في إجلاء الاحتلال الإسرائيلي)..
كان لبنان، عشية القمة العربية، مثل نجمة صبح يغمر بوهج مقاومته الباسلة، القمة، بالملوك والرؤساء فيها، بينما طلاب مصر وفتيتها يقبسون منها المثال والشعار، ويحاصرون بتجربتها الناجحة أهل القمة، ويفرضون نوعا من التهيّب على الوفد الفلسطيني، لأن المقارنة تلقي بظلها على الزمان والمكان والناس، مستولدة لغة جديدة لم تكن مألوفة، والأرجح انها لم تكن مرغوبة.
مع هبوط الطائرة في مطار بيروت كان علينا أن نخضع لهبوط آخر قسري، وأن نتحمل مجموعة من الصدمات النفسية التي بقدرتها أن تطيح بمعاني الكثير من المفاهيم والقيم بل والمعايير السياسية.
لم يستوقفنا كثيرا جدل الفقه الدستوري بين الطارئين على الاشتراع حول التكليف والتأليف وما بينهما، فتلك ثرثرة لملء فراغ الوقت وغياب القرار،
استوقفنا، على سبيل المثال، مشروع حكومة لقيط تجاوز »مبدعها« كل خيال بقدرته على تجميع التشوهات الفاضحة لغربته ليس عن الأصول فحسب بل عن الواقع أيضا.
وبرغم أننا قد ألفنا أن »تُسقط« علينا الحكومات من علٍ، وأن تحكمها »المحاصصة« والتوازنات بين »المواقع« و»المراجع« و»الزعامات العريقة« والأخرى »الطارئة« أو المستولدة حديثا، إلا أن مشروع هذه الحكومة الذي يُنكره الآن أهله، كان يتضمن أكبر مجموعة من الإهانات دفعة واحدة ليس للسياسيين في الحكم وخارجه فحسب، بل للبنانيين جميعا.
صحيح أن كل حكومة كانت تتضمن بعض المفاجآت غير السارة، بتوزير بعض غير الأكفاء وبعض »النكرات« وبعض المطعون في ذممهم المالية أو في أهليتهم لتمثيل بلد »مشعّ« كلبنان،
لكن مشروع الحكومة اللقيط، التي يقال إنها سُحبت الآن من التداول ربما لإعادة صياغتها، يتضمن حكما بالإعدام على المجلس النيابي الوليد، الذي كان قد فقد الكثير من صدقيته بسبب القانون الأخرق للانتخابات، ثم بسبب البواسط والمحادل و»حروب الأجهزة«، وأخيرا بسبب الحمى الطائفية التي استولدها ذلك كله فحكَّمت الغرائز والعواطف بالنتائج فكادت تجعلها نموذجا رديئا لديموقراطية الطوائف والمذاهب اللاغية للسياسة، و»المبشرة« بحرب أهلية أخرى، عندما تتوفر لها الظروف المؤاتية (التمويل، الحمايات السياسية التي يفرزها صراع المصالح بين الدول ذات المصالح..).
الأخطر أن التفكير، مجرد التفكير، بمثل هذه الحكومة، في هذه اللحظة السياسية بالذات، بكل الهموم المصيرية التي تثقل كاهل العرب عموما وكاهل اللبنانيين خصوصا، ومعها الأزمة الاقتصادية الخانقة والركود وانعدام فرص العمل وضيق أبواب الرزق، والخواء السياسي الذي لا يخفف منه بروز »الزعامات الطائفية« بل هو يؤكده ويفاقمه، يكاد يعني غربة عن الواقع وإجهاضا لاحتمالات الانفراج، ولو المحدود، التي ارتسمت في الأفق مع »قيام« المجلس الجديد، وعودة »صاحب الإسم الذهبي« رفيق الحريري الى دست الحكم، بما عُرف فيه من حيوية وما عُرف له من علاقات واسعة…
كان الناس يعرفون، بالتجربة، أن رفيق الحريري ليس خارق القدرات، وأنه قد لا يقدر على توفير حل سريع لأزمة بهذه الخطورة وهذه الحدة، خصوصا وأنها نشأت وتفاقمت وهو على رأس حكومات سابقة، ولكنهم كانوا يأملون أن تكون عودته فرصة لشراء الوقت، لعل وعسى »يبدل الله من حال إلى حال«…
هذا قبل ان نصل الى الاسماء المقترحة، وفيها من هو مرفوض بالمبدأ، ومن هو مسيء الى من اقترحه ومن ثم الى الناس كافة، وفيها من هو مستهلك في حكومات فاشلة سابقاً، وفيها من يستفز الحجر لأن مجرد اختياره يعني الاستهانة بعقول الناس قبل كراماتهم.
كان السؤال عن المعايير التي اعتمدت: هل هي الكفاءة أم القرابة، وهل هي الأهلية أم الاستزلام؟! وهل المعايير سياسية أم طائفية، بل ومذهبية؟! وهل تمّ التقاسم سلفاً ومن فوق رؤوس الجميع، أم انها محاولة لفرض أمر واقع على الجميع تحت طائلة التهديد بما هو أسوأ مما لا يملك أحد ان يفرضه، مثل الحكومة العسكرية؟!
غاب الكلام تماماً عن البرنامج، وعن المهمات الثقيلة للحكومة الجديدة، واستعرت حروب القبائل والعشائر، بالموالاة أو بالاعتراض، كل يتهم الآخر بالعمل على تحجيمه أو إلغائه، بينما يتم تحجيم البلد بناسه المنهكين بالضائقة المعيشية، والمزدحمين كالمتسولين على أبواب سفارات النعيم الأجنبي للحصول على تأشيرات تأخذهم الى أي مكان يقبلهم، بغير أمل أو رغبة في العودة؟!
شُغِل المعنيون بتوزير الانسباء والأصدقاء المطواعين ورفاق السمر والظرفاء الذين لا يقولون »لا« ابداً، واستبعاد »الخصوم« و»المشاغبين« الذين قد يعترضون، حيناً، وقد يعارضون أحياناً، وقد يرفضون ما لا يجوز قبوله في بعض الحالات.
نسي المعنيون المخاطر الجدية التي تهدد المنطقة كلها، ولبنان أساسا، فلم يخطر ببالهم ان يستدركوا في الحكومة ما تعذر تأمينه في الانتخابات وبالتالي في المجلس الجديد، من تمثيل صحيح للاتجاهات والقوى والتيارات ذات التأثير، بل لعلهم قد اندفعوا بعيداً في استفزاز قوى كانت حليفة فاستعدوها وكانت صديقة فاستبعدوها ودفعوا بها الى المعارضة بلا سبب مفهوم، متسببين في خلق جو غير صحي لا يفيد منه إلا القوى المعادية، للبنان كله وللعرب جميعهم، وليس للعهد أو للحكومة أو للمؤسسات السياسية فحسب.
ليست التشكيلة المسربة مهمة بذاتها، وبغض النظر عن صحتها أو عن اختلاقها، وليس مهماً النقاش الجاري حولها، من سرّبها وكيف ولماذا وما غرضه ولحساب من يعمل؟! ذلك كله من التفاصيل المعيبة،
لكن العار كل العار في ان يتخذ تشكيل حكومة جديدة في لبنان، في هذه اللحظة المتفجرة بالمخاطر، هذا السياق، وان يحكمه هذا المنطق » المحلي«، حتى لا نقول »الشخصاني«، وان يغيب النقاش عن البرنامج الانقاذي، أي عن المهمة الفعلية الوحيدة للحكومة العتيدة.
ومن باب تنشيط الذاكرة ولفت انتباه من لم يغرق كلية في ساقية الحكومة، بعد، لا بد من الاشارة الى ما يجري، خلف حدودنا الجنوبية، مباشرة، أي عند عدونا الإسرائيلي،
انهم، هناك أيضاً، يعملون لحكومة جديدة تحت لافتة »الوحدة الوطنية« أو »الطوارئ«… ولا يخفون انها ستكون »حكومة حرب«، حرب لا بد ان تتجاوز الفلسطينيين الى لبنان والى سوريا، ومن ثم الى كل العرب في كل أرضهم.
انهم هناك، يحاولون حشد القوى جميعاً، فيتجاوزون الخصومات الشخصية والتعارضات السياسية، والخلافات العقائدية، لكي يقدموا للإسرائيليين حكومة قادرة على شن الحروب العدوانية، وعلى الحاق الهزيمة بالعدو العربي، سواء أكان في فلسطين أم في خارجها،
ولبنان المعني أكثر من معظم الدول العربية بل المستهدف بحكومة الحرب الإسرائيلية هذه، يكاد يتوه في غياهب النقاش عن كفاءة الانسباء وأهلية الاتباع والأنصار في تقاسم سلطة ولن تستطيع ا لكثير في مواجهة الأزمة الجدية في الداخل، فكيف بالخطر الداهم الذي يلوح به عدونا الإسرائيلي؟!
في خضم هذا الجدل العقيم، بل المهين، لا مجال للأمل في ان تتبدل الأحوال وان تنفرج الغمة وان تنفتح أبواب الرزق وتقفل أبواب الهجرة، ولا في ان تستقر الأوضاع توكيداً لقيام دولة القانون والمؤسسات.
بل ان الحديث عن القانون والمؤسسات الدستورية، في ظل جدل كهذا، يكاد يكون نكتة سمجة،
ليست تشكيلة الحكومة هي المشكلة بل منطق الحكم ومنهجه، فالحكومة أداة تنفيذ لبرنامج وطني، وليست مجرد ادارة بيروقراطية ومساحة نفوذ ومنافع يتقاسمها اصحاب الحظوظ فإذا لبنان واللبنانيون بخير، بل بألف خير…
مع الاعتذار من السادة وزراء الانقاذ!