طلال سلمان

هاتف خلوي يقلب راس حكم

تخطى الحكم في موضوع الهاتف الخلوي حاجز ما يمكن اعتباره »فضيحة مالية ذات أبعاد سياسية«، الى استغفال »شعبه اللبناني العنيد« ومخادعته بالأرقام كما بالاستهدافات الفعلية لقراراته المتناقضة، ومعظمها من نوع »كاد المريب ان يقول خذوني«، وبالتحديد منها القرار »المباغت« الذي اتخذه في الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء، والذي »تحفظ« عليه الوزير المختص (الاتصالات) وإن كان تعذر عليه او انه »مُنع بلطف« من إبداء اسباب تحفظه… »حتى لا تكون فتنة«، وينتهي مفعول »غسيل القلوب« الذي يشكل ركيزة الحكم في اللحظة الراهنة!
لا مجال، هنا، للعودة الى البدايات، لا سيما منها ما رافق قيام الشركتين المستثمرتين لهذا الجهاز »الذي يبيض ذهباً«، وبين الوقائع تعديلات في الحكومة الواحدة تم خلالها تبديل الوزير المختص، و»نسف« الادارة المعنية التي اتهمت بالتباطؤ في التنفيذ، اكثر من مرة.
كذلك لا مجال، هنا، لاستعادة كل ما اطلقه »العهد« في ايامه الاولى من اتهامات »جنائية« بحق من اجاز وسهل وأسهم في تمرير التعاقد مع الشركتين على الصورة »الظالمة للدولة وخزينتها« التي تم بها.
يكفي ان نذكر هنا بما طرحه رئيس الجمهورية مباشرة او عبر وزير الاتصالات، (الذي ظل حتى الامس يُعامَل كأنه »صوت الرئيس« او »ضميره«) في اواخر تموز الماضي، مفجراً بذلك معركة مدوية طاولت رئيس الحكومة مباشرة، بشخصه وببعض انسبائه، وصولا الى ما تم اقراره في مجلس الوزراء آنذاك، مما يمكن اعتباره »وضع يد على الشركتين« على قاعدة: »الايرادات للدولة بعد حسم نفقات التشغيل للشركتين، والخصخصة في 31/1/2003 ولا للتحكيم« الا مع الشركة الفرنسية لكونها مملوكة من دولتها.
لماذا هذا الانقلاب الجديد، والمفاجئ ايضاً، في موقف الحكم، بشخص رئيس الجمهورية؟!
وماذا عدا مما بدا بين أواخر تموز وأواخر تشرين الثاني يمكن ان يقال في تبرير »الصمت المريب« لمجلس الوزراء عن »امر دُبر بليل« من شأنه ان يتسبب بخسارة اضافية تلحق بالمال العام؟!
لقد اغرق الحكم اللبنانيين في مجموعة من الروايات والاتهامات المطلقة ضد اطراف فيه، والارقام المتناقضة، بحيث لم يعد احدهم، بمن في ذلك »الخبراء«، يعرف حقيقة ما جرى ويجري في هذا المجال الحيوي، فضلا عن الاسباب الفعلية للتحولات في موقف الدولة، ممثلة بأعلى مراجعها، والتي تجعلهم يضيعون تماماً في غابة من الارقام المتشابكة حول عائدات هذا المرفق العام، سواء منها الماضية والراهنة والمستقبلية… فضلا عن ان احداً لم يعد يستطيع الاطمئنان الى صحة اي رقم يعطى عن كلفة التشغيل، او الربح العائد، او قيمة الشركتين، او عن »التسنيد« وعن الفوائد العالية التي ستدفع، وعن التحكيم ومآله، وقد كان مرفوضاً فتم قبوله، وصولا الى الخصخصة والعائد المنتظر منها بعد كل عمليات التشهير هذه التي لم توفر اي طرف في القطاعين العام والخاص.
السؤال الذي على ألسنة الجميع: ما هو السر في انقلاب موقف رئيس الجمهورية، الذي كان قد خاض »معركة منتصرة« في الصيف، بعد معركة شرسة استخدمت فيها »كل انواع الاسلحة«، وكان عنوانها الذي استقطب له التأييد هو الحفاظ على المال العام، واستعادة بعض حقوق المكلف اللبناني.
يومها، انشق الحكم على نفسه وشجرت بين اطرافه خصومات، ونظمت حملات اعلامية قاسية، طالت الذمم المالية لبعض اهل السلطة وأمانتهم، وأطلقت اتهامات مشينة، وحوصرت جهات رسمية بالادانة والتواطؤ واستغلال النفوذ للمس بالمال العام.
وبشهرين أو أكثر تعطلت الدورة الطبيعية للحكم وتم تجميد قراراته، فما يطالب به طرف يرفضه الطرف الآخر… واتهم رئيس الجمهورية بممارسة متعنتة لحقه الدستوري وذلك بمنعه التصويت في مجلس الوزراء، حتى لا ينتصر عليه رئيس الحكومة بالأكثرية التي تسانده.. كما اتهم بالتضييق على »شريكه« أو »مساكنه« بحيث لا يفسح له في المجال لترؤس جلسة واحدة من مجلس الوزراء ويصر على ترؤسها جميعاً »لضبطه« ومنع اجتياحه »الثوابت«، كما كان يردد »أنصار الرئيس«.
ما الذي جرى فاستوجب هذا »الانقلاب«؟!
إن السلطة مطالبة بتفسير هذه التحولات، بل وبتبريرها أيضاً.
ولا يكفي للتفسير، ومن ثم للتبرير، ان تتولى »مصادر القصر الجمهوري« يومياً أن توجه الاتهامات الى كل من يسأل أو يحاول الاستفسار أو التدقيق في الوقائع والأرقام وموجبات التحول المكلف في موقف الدولة، بأنه »مغرض« اذ »لا يجوز التشكيك في موقف رئيس الجمهورية« وهو »بطل استعادة حقوق المكلف والخزينة«.
ثم… أين مجلس الوزراء؟!
ولماذا تم استفراد وزير الاتصالات، الذي نجح لفترة في ان يبدو كأنه المدافع الناجح عن حقوق الدولة التي كانت مغتصبة فاستعيدت.
إما أن هذا الوزير كان قد اتخذ الموقف الصحيح من قبل، فكان من الواجب دعمه وحمايته، وليس فقط من طرف رئيس الجمهورية، بل أيضا من طرف زملائه الوزراء، وبعضهم يمثل أحزاباً وقوى سياسية ترفع شعارات باهرة تقول برفض الخصخصة، مبدئياً، وبحماية المال العام دائماً؟!
.. وإما أن هذا الوزير مخطئ في تقديراته ومن ثم في قراره الذي اعتمده مجلس الوزراء قبل أربعة شهور فقط، وبالتالي فمن الطبيعي إقالته، بل وربما محاكمته لمحاسبته عن توريط الدولة في معركة خاسرة، ستتكبد فيها أضراراً معنوية بالغة فضلاً عن »هدرها« مئات ملايين الدولارات، في تعويضات التسنيد وفوائدها التي تداني ثلاثة أضعاف الفائدة التي سندفعها لقروض »باريس 2«.
لقد فقد المواطن الثقة »بالمصادر الرسمية«.
وسواء جهر بموقفه الفعلي أو احتفظ به لنفسه طلباً للسلامة، فإنه يعرف يقيناً انه الخاسر الوحيد في هذا التحول المفاجئ في موقف الدولة، الذي خلط الصح بالغلط بحيث ضاعت الحدود بينهما، وضاعت الحقيقة في غابة الأرقام المضللة أو الوهمية.
ولعل هذا المواطن لا يطلب من الله العلي القدير ان يرد عنه القضاء ولكن اللطف فيه… فهو يخاف، سلفاً، من الصفقات المقبلة، راضياً بنصيبه مما لحق به من خسائر، حتى هذه اللحظة.
من يحاسب من؟!
ذلك هو السؤال الذي يبدو كأنه غير ذي موضوع كلما تأكدت »وحدة الحكم«!
أما حين ينشق الحكم على نفسه فالخسارة أعظم!
وهكذا فإن المواطن يبدو محاصراً بين خسارة مؤكدة بوحدة الحكم، وخسارة مؤكدة بانقسامه… فأين المفر؟!

Exit mobile version