من قبل أن يبدأ التحقيق وتجمع الأدلة، حددت الولايات المتحدة الأميركية عدوها الذي فجَّر عاصمتيها، واشنطن ونيويورك: إنه »الإرهاب الدولي« بشخص أسامة بن لادن وتنظيمه »القاعدة« الذي تحميه حكومة طالبان في أفغانستان.. ومن أجل الوصول إليه في آخر الدنيا فقد قررت أن تضع يدها على الدنيا كلها.
بدأت من حيث يجب أن تبدأ: من شركائها التاريخيين في الحلف الأطلسي، بأعضائه الرسميين ثم بالطامحين إلى دخول جنته… وبعد ذلك وضعت يدها على مجلس الأمن الدولي فحولته إلى »حكومة طوارئ عسكرية« تمارس دور هيئة وصاية أميركية على الكون، بدوله وشعوبها جميعاً. فالإرهاب الدولي عالم من الأشباح التي تنسرب عبر الفضاء بسهولة مستفيدة من وسائل الاتصال والمواصلات الحديثة ومن كل الإجراءات والتسهيلات التي وفرها هدم الحدود أمام التجارة والتحويلات المالية وتبادل المعلومات.
تجاوزت طبيعة نظامها الديموقراطي، فارضة ما يشبه الأحكام العرفية، ومن ضمنها الرقابة الصارمة على صحفها، وتخطت كل الحواجز المعنوية والقيم الحضارية.. فالقوانين ثقيلة على حاملات الطائرات، وحقوق الإنسان سلعة حربية الآن، أما الديموقراطية فترف لا يليق بضحايا التفجيرات، وأما سيادة الدول الأخرى فوهم يتلاشى أمام ضرورة حماية النظام العالمي الجديد.
وهكذا ارتدى جورج بوش ثياب الماريشال ووقف أمام العالم شاهراً سيفه وهو يهتف: الأمر لي!
فوّضت واشنطن إلى نفسها حقوق الدول على مواطنيها، فنصبت نفسها الحاكم العسكري العام لجميع الأقطار، يقرر لها وفيها وعنها ما يراه ضروريا للأمن الأميركي باعتباره، الآن، عنوان سلامة العالم والانتصار على الإرهاب.
قررت التكييف القانوني لقضيتها منذ اللحظة الأولى: إنها حرب كونية أعلنتها قوى الشر ضد الولايات المتحدة الأميركية، وسترد عليها بحرب كونية استنادا إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة… وقد أقر الحلف الأطلسي هذا التكييف القانوني ثم التزم به مجلس الأمن في قرار تاريخي أُنجز بسرعة الضوء (في 3 دقائق!) انطلاقاً من الفصل السابع من ذلك الميثاق الذي يجيز استعمال القوة تحت غطاء الشرعية الدولية ممثلة بالأمم المتحدة.
لم تعد الولايات المتحدة تتحكّم بالمصائر من الخارج، وبمنطق حماية مصالحها، بل صارت »تحكم« مباشرة ومن الداخل، وفي الشؤون جميعاً: هي صاحبة القرار، تسمح أو تمنع، في كل ما يتصل بالشؤون المالية والاقتصادية، إذ لها حق إسقاط السرية المصرفية وكشف الحسابات جميعاً ومتابعة حركة الأموال الخاصة بالأفراد والهيئات والمنظمات بمعزل عن الأصول التي تعتمدها المصارف مع زبائنها. ثم إن لها حق الإمرة على وزارات الداخلية والأجهزة الأمنية تطالبها باعتقال هذا أو ذاك من المتهمين، وبتسليمها المعلومات عمن تعتبرهم بين »المشبوهين«، وتطالبها بمراقبة أيّ كان، شخصاً كان أو منظمة.
الأخطر أن لها أن تتدخل في القضاء، جالساً وواقفاً، وفي أصول المحاكمات، وأن تستصدر من قوانين الطوارئ ما يلائمها.
باتت كل حكومات العالم، وبالذات غير الغربي، أدوات تنفيذية عند الحاكم العسكري العام الأميركي، وبموجب تفويض مفتوح من الحكومة العالمية (مجلس الأمن) التي باتت مجرد »ختم«: تشرع له ما كان خارجاً على القانون والعرف والمنطق، تدين بالنيابة عنه، وتصدر الأحكام تاركة له أمر التنفيذ، مع العرض المفتوح بأن تتولاه لحسابه.
* * *
في حرب كونية كهذه، ولضمان الالتزام والانتظام العام، لا بأس من تقديم رشوة لهذا النظام أو ذاك، أو الوعد برشوة لهذه الجهة أو تلك: لروسيا وعد بمسح بعض الديون والتغاضي عن إبادة الشيشان، للصين معارضو التيبت ومنافع التجارة الدولية، لمسلمي آسيا الوسطى الوعد بالرخاء والعصرنة.
أما للعرب فكلام مبهم عن »فكرة« دولة فلسطين »التي كانت دائماً جزءاً من التصور الأميركي للسلام…«، ثم يأتي الاستدراك سريعاً: »ولكن يجب عدم حرق المراحل، ولا بد من المرور بتوصيات لجنة ميتشل«؟!
لكن هذه التوصيات صارت ذكريات، فلقد سحقتها مراراً وتكراراً دبابات شارون، ثم إنها أبعد ما يكون عن الوعد بدولة، وفي ظلها قتلت إسرائيل من المواطنين الفلسطينيين مثل مجموع ما قتلته قبلها!
أين لجنة ميتشل من مؤتمر مدريد، المكافأة البراقة للعرب الذين أحرجتهم »غزوة« صدام حسين فشاركوا مكرهين ومحرجين في حرب التدخل الدولي »لتحرير الكويت«… مع ذلك فإن ذلك المؤتمر المهاب لم ينجب إلا جهيضاً هو اتفاق وادي عربة بين إسرائيل والأردن، بعدما هرب عرفات بقضيته ذات ليل، بعيداً عن وفده إلى مدريد، ثم إلى واشنطن، وبعيداً عن »شركائه« العرب، لينجز مع »شريكه« الجديد، الإسرائيلي، اتفاق أوسلو، الذي »كان كل سطر فيه بحاجة إلى اتفاق«، كما وصفه الرئيس الراحل حافظ الأسد، والذي سقط صريعاً برصاص موقّعيه الإسرائيليين، ولم يستطع ميتشل (ومن قبله كلينتون) أن يحميه من السقوط!
الرشوة تافهة قياساً إلى الخطيئة المطلوب التستر عليها، إن لم يكن المشاركة فيها، ثم إنها غير قابلة للصرف… خصوصاً أن إدارة بوش ذاتها لم »تستطع« حتى هذه اللحظة أن توقف إطلاق النار، وقتل الأطفال والشيوخ والرجال الفلسطينيين، ولا هي أوقفت تهديم مقار السلطة وبيوت الصفيح في مخيمات اللجوء وتجريف الأراضي وإعدام الأشجار!
هي رشوة تكاد تكون تحقيراً لعقول العرب قبل إرادتهم ومكانتهم ودورهم في دنياهم ودنيا المسلمين عموماً!
وهي لا تفيد في تغطية حرب كونية ليس بين المرشحين لأن يكونوا من ضحاياها، حتى الساعة، إلا جموع من العرب والمسلمين!
* * *
أن تقتل فرداً أو جماعات من البشر، بغير وجه حق وبغير ذنب ارتكبوه، وبغير أن يعرفوا هدفك وموقعهم منه، فهذا إرهاب بالتأكيد لا يقبله ضمير ولا يقره عقل.
ولكن ماذا عن فرض مناخ من الرعب على العالم كله، وعن حبس شعوب تُعَد بمئات الملايين في قوقعة الخوف؟!
إن دولاً بأكملها في قفص الاتهام الآن، بكل مواطنيها بل ومسؤوليها وأجهزتها الأمنية والقضائية والمالية والإدارية والاقتصادية… وصولاً إلى جمعياتها الخيرية!
ومع أن إسرائيل ليست طرفاً ظاهراً في التحالف الدولي، إلا أنها لعبت وتلعب دور »النيابة العامة« و»المخبر الخاص« و»المحرّض المباشر« ضد العرب والمسلمين عموماً، في حين تمضي في حصار الفلسطينيين وفي قتلهم وفي تفكيك مجتمعهم فضلاً عن أوصال أرضهم بحيث تكاد تستحيل حماية هذه »السلطة« المتهافتة، فكيف »بفكرة« الدولة التي كانت ستعلنها الإدارة الأميركية من على منبر الأمم المتحدة ثم باغتتها حرب الإرهاب فطوتها حتى جاءت لحظة الحرب على الحرب فأفرجت عنها، ومعها مجموعة من التلميحات إلى أن المنظمات الفلسطينية المقاومة هي تشكيلات إرهابية إلى أن يثبت العكس، بينما »المستوطن« الإسرائيلي المدجج بالسلاح، والمحتل بيت صاحب الأرض، هو ضحية مدنية للقتلة الإرهابيين!
لقد هان أمر العرب على »أصدقائهم« الأميركيين، فباتوا يمنّون عليهم، الآن، بتبرئتهم من شبهة الإرهاب، إذا هم أعانوهم فوشوا بمناضليهم ومجاهدي المقاومة من أجل التحرير.
والرشوة الأميركية بفكرة دولة فلسطين، بالصيغة المبهمة والمتهافتة التي طرحها جورج بوش، لا يمكنها أن تغطي »الفضيحة« التي يُراد للعرب أن يتورطوا فيها في حرب هم بين ضحاياها في البداية وفي النهاية، إلا إذا…
لكن ذلك يدخل في خانة التمنيات!