في خطاب »العهد المتبادل« لم يتحدث حافظ الأسد إلى السوريين وحدهم بوصفه رئيسهم لولاية خامسة، بل كقائد عربي يستشعر مسؤولية شاملة عن »حال الأمة« بكل أقطارها وبكل جروحها وآلامها وطموحاتها ومخاوفها على المصير.
لقد تحدث بلسان المرجع المؤهل بالتجربة العريضة والممتدة لثلاثة عقود أو يزيد، والحكيم المتصف بشجاعة صاحب قرار الحرب والسلم.
… وهي لغة هجرها المسؤولون العرب، بغالبيتهم، منذ زمن بعيد، وانغمسوا في قطرياتهم ومصالحهم الكيانية الضيقة، هاربين من التزاماتهم القومية، متوهمين ان ذلك قد يؤمنهم من خوف (مصدره في تقديرهم، أو في واقع الأمر أحيانا، »إخوتهم«)، أو يوفر لهم الرخاء، فقادهم قصر النظر إلى طلب الحماية الأجنبية مباشرة، أو إلى الاستسلام لشروط مشروع التوسع الإسرائيلي المفتوح بمدى اتساع الأرض العربية، بل وإلى ما بعدها من »بلاد خلف النهر« و»خلف البحر« شرقاً وشمالاً وجنوباً، لحسابها دائماً وبالوكالة عن الغرب أحياناً وحين يعز عليها الانفراد.
لم يكن خطاباً عاطفياً أو مناشدة وجدانية، بل كانت صيحة انتباه وتنبيه للغافلين أو للمحرجين أو للمسجونين داخل عواطف الغضب أو ضرورة الثأر للكرامة الشخصية.
لم يتجاوز حافظ الأسد عن الأخطاء والخطايا التي ارتُكبت بحق الأمة ولكنه دعا إلى »وقفة شجاعة ومسؤولة تساعد على تحقيق مراجعة نقدية وموضوعية للوضع العربي، بهدف وضع منهج جديد للعلاقات العربية ينقلنا من حالة الصراع إلى حالة التعاون والتضامن والتعاضد..«.
وفي إشارة واضحة إلى »غزوة الكويت« والخلافات الحدودية والصراعات القطرية التي تسمّم الجو بين هذا الطرف العربي وذاك، توجه حافظ الأسد إلى الجميع منبهاً بل محذراً »ومع تقديري لعمق الألم لدى كل طرف فإن الآلام الكبرى التي تصيبنا جميعاً والجروح التي تستنزفنا جميعاً، يجب أن تدفعنا إلى تجاوز الألم الأصغر لدفع الألم الأكبر«.
إنها دعوة للمصالحة مع الذات. إنها دعوة لمواجهة الذات. إنها دعوة لمحاسبة الذات، وهي لا تخص العراق وحده، ولا تعني أقطار الجزيرة والخليج وحدها، بل تعني الجميع بلا استثناء.
إنه حافظ الأسد »العربي بامتياز«، يدق ناقوس الخطر للعرب، في لحظة كان يفترض أن تكون مناسبة حميمة ذاتية، ولحظة ابتهاج سورياً، ولحظة مباركة عربياً.
إنه رمز الصمود يتحدث، باعتداد الواثق من موقفه، ومن الاحتضان الشعبي العارم لهذا الموقف الحافظ للكرامة وللحق في المستقبل: »يتكلم البعض عن السلام مع إسرائيل في الوقت الذي نرفض فيه السلام في ما بيننا.. ولن يتحقق السلام مع إسرائيل، موضوعياً، إلا إذا تحقق السلام بين العرب أنفسهم«.
ليست هي دعوة إلى الحرب.. لكنها دعوة إلى العقل.
الصمود والمقاومة والتمسك بالحقوق الوطنية، والتضامن المعزز لموقف كل عربي كما لموقف العرب جميعاً، كل ذلك ما يؤدي إلى السلام المنشود، ويحفظ للأمة مكانتها وحقها في دورها.
… وهذه سوريا التي كانت صغيرة بحجمها وإمكاناتها فجعلها موقفها تكاد تمثل أكثرية العرب، وتصير قدوة لهم وموضع فخارهم جميعاً.
ولعلنا في لبنان الأخبر والأكثر استفادة من هذا الصمود السوري الذي حمانا ويسّر لنا أن نخرج من الحرب ضد الذات إلى تسجيل واحدة من أروع صفحات المقاومة في تاريخ الأمة.
.. وفى حمى الأسد مجد الموقف مع الأمان في الحاضر والأهلية لمواجهة أعباء المستقبل.
ولعلها تكون فرصة لإقامة »عهد متبادل« في ما بين العرب، كالذي بين السوريين ورئيسهم الكبير.