لفلسطين سرّها المقدس الذي يمدّها بقوة أسطورية للصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي والاستعصاء على التذويب بالقهر، بالسجن، بالنفي، بالتجويع، بالفصل بين العين والعين بالدبابات، بطرد أهلها من الخصيب من أرضها وتمزيق العائلات ومحاصرة من عاند وثبت في بيته بنفيه إلى حيث قدرت اسرائيل أن الناس سيقتتلون على الرغيف. لكن الوطن لجأ إلى الوطن وتجذرت القضية في الأرض المقدسة، ترويها دماء الشهداء الذين يتوالدون ويتزايدون على مدار الساعة بغير أن يبتعدوا عنها وبغير أن تغادرهم.
فاضت «القضية» على العالم كله. صار بعض شعبها لاجئاً في بعض أرضها. اتسعت غزة، الشرفة البحرية لفلسطين، لمليون ثم لمليون ونصف المليون من الذين رفضوا الخروج من قبلتهم وتربتهم، من تاريخهم وأنفاس الأهل ومعارج النبوة ومواقع صلاة القديسين. انزرع الوافدون الجدد المخرَجون من قراهم ومدنهم في رمال جباليا والشاطئ والبريج والنصيرات، في دير البلح والمغازي، في رفح وخان يونس. رددوا مع الإمام الشافعي أبياتاً من شعر حنينه:
«وإني لمشتاق إلى أرض غزة
وإن خانني بعد التفرق كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها
كحلت به من شدة الشوق أجفاني»
قبل الإمام الشافعي، كان قد مرّ بها جد الرسول العربي هاشم، ولذلك يعرفها البعض بغزة هاشم.
…ولقد طارد العدو الإسرائيلي شعب فلسطين في كل أرضه، وكان نصيب غزة، الذي يزدحم في شريطها الضيق بأكثر من مليون ونصف المليون من الفلسطينيين، حربين: الأولى في العام 2008 والثانية قبل أقل من عام. ولكنها صمدت للحربين ولم تهزم إرادة المقاومين فيها، فلقد جاءها من قبل غزاة عديدون، ثم اندثروا لتبقى الشرفة البحرية لفلسطين وبوابتها على مصر والجسر بينها وبين الشام. فقبل الإسرائيليين جاءها الصليبيون وهزمهم البطل الذي تحمل «الشجاعية» اسمه الأمير شجاع الدين بن عثمان الكردي.
وفي أيام الأيوبيين كانت غزة عاصمة فلسطين، وكان فيها 70 مسجداً. وفيها حتى اليوم ـ إضافة إلى المساجد ـ كنائس عدة أقدمها كنيسة الروم الأرثوذكس التي بناها الأب بريفيريوس، مطران غزة سنة 425 ميلادية، وكنيسة اللاتين في شارع الكاملية، وكنيسة البروتستانت والمستشفى المعمداني الملحق بها.
قال عنها نابليون إنها المخفر الأمامي لأفريقيا وباب آسيا…
…ولما كان اليهود يأتون هاربين من الظلم الأوروبي كانت غزة، كما سائر فلسطين، تفتح ذراعيها وتستقبلهم في سياق مبدأ إغاثة الملهوف.
ها هم الإسرائيليون الآن يحتلون الهواء والأرض والسماء والبحر بالمستوطنين، ويكادون يمنعون على الفلسطينيين حق الحياة في أرضهم التي هي أرضهم… ولكنهم باقون فيها، باقون معها، باقون لها.
هذا العدد من ملحق «فلسطين» عن غزة، بمدنها كافة، تحية لصمودها، وعن الاستيطان والمستوطنين الذين ما زالوا يُستقدمون من أربع رياح الأرض ليجعلوا فلسطين إسرائيل، بينما فلسطين كانت فلسطين، وهي الآن فلسطين، وستكون غداً فلسطين.