كلما فشلت تركيا في تأكيد »انتسابها« إلى الغرب الكبير، ارتدَّت نحو »الغرب الصغير« ممثلاً بإسرائيل فحاولت أن تعوّض بالتحالف مع »الفرع« ما عجزت عن تحقيقه مع الأصل.
لقد أخرجت تركيا نفسها من الشرق، منذ أتاتورك، ولم تستطع أن تدخل الغرب، وإن كان قد وظفها كحرس حدود في مواجهة »الخطر الشيوعي«… وهكذا قبلها في الحلف الأطلسي، ولم يقبلها الاتحاد الأوروبي برغم كل محاولاتها وتحرشاتها وضغوطها، ولا يبدو أنه سيقبلها في المدى القريب.
الآن تحاول تركيا أن »تستعيد« الشرق كمدى حيوي، وكمنطقة نفوذ، بالشراكة وبالتحالف مع »القوة الإقليمية العظمى« إسرائيل!
ولعلها تفترض أن المشرق العربي في هذه اللحظة هو من الضعف والهوان والعجز عن المواجهة بحيث يكفي أن تعزل سوريا (ومعها لبنان)، وأن تشغلها بنفسها، حتى يمكن القفز لوضع اليد على المنطقة كلها، بنفطها وموقعها، بالاتكاء على المصالح المشتركة مع الإسرائيليين.
لقد وُلد الحلف التركي الإسرائيلي في موعده بالضبط: بعد الانقلاب في الموقف الأميركي وتخلّيه عن دور »راعي العملية السلمية« و»الضامن« لسياقها ونتائجها، وبضغط من التطرف الإسرائيلي وامتداداته داخل الادارة الأميركية، وتهالك العديد من الأطراف العربية، والانهيار المفجع في الوضع الفلسطيني.
وللحظة، تبدو ظروف ولادة الحلف الجديد مناسبة أكثر مما كانت ظروف ولادة حلف بغداد، قبل ثلاثين عاما تقريبا.
ليس جديدا القول إن تركيا، من قبل إسرائيل، تطمع بحصة من النفط العربي، والنفط العراقي على وجه التحديد، مع الاستعداد لمقايضة »الماء« الذي تقع مصادره الأساسية في أرضها بشيء من نفط الجزيرة والخليج،
وليس جديدا القول إن إسرائيل لم تكتفِ بما نالته كتعويض اقتصادي وعسكري (وسياسي) لقاء »عدم مشاركتها« في حرب الخليج الثانية، وأنها ما زالت تتطلع إلى أن تأخذ لنفسها ما »تستحقه« من خيرات المنطقة العربية، نفطها أولاً ثم أسواقها بعد ذلك.
أما الغطاء العربي فأمره هيّن: يمكن إشراك الأردن بالفتات، واستغلال اللافتة الفلسطينية للتمويه، فيصبح الحلف المعادي الجديد سبباً لانقسام عربي جديد، أي لمزيد من الضعف العربي المغري!
ثم إن التهويل بقدرات هذا الحلف الذي يحظى برعاية أميركية مكشوفة، يمكن أن يتسبّب بإثارة الذعر في غير قطر عربي، وبالتحديد في الأقطار النفطية، فيحيّدها على الأقل، مما يساعد على عزل سوريا (ومعها لبنان دائما) ومحاصرتها بين السندان التركي والمطرقة الإسرائيلية أو العكس، ويمكن أن يعهد إلى الأردن مثلاً بدور الصبي الذي يتولى النفخ في النار.
الذرائع التركية التي تحولت الى شروط، والتي يضرب بعضها عميقاً في التاريخ (لواء الاسكندرون جرح مفتوح منذ ستين سنة)، بينما بعضها الآخر مفتعل وغير جدي أو لا ينفع لتفجير الحرب أو لتبريرها، هي مجرد غطاء أو ستار للأهداف الأصلية للحلف الجديد الذي يستهدف المنطقة كلها، من حدود مصر التي تنكر عليها تركيا دور »الزعامة« أو »القيادة« وتكاد تحقرها، وحتى مضيق هرمز عند نهاية الخليج العربي، وباب المندب الذي يتحكّم بالحركة في البحر الأحمر.
ومن أسف أن رد الفعل العربي ما يزال فاترا وباهتا وملجوما بالخوف، مما يشجع الأتراك على التمادي، ومما يعطي الفرصة للجنرالات الأتراك لكي يظهروا أمام شعبهم بمظهر »الأبطال« الذين لا يجرؤ أحد على مقاومتهم، فيلجم المعارضة الداخلية القوية ويربكها ويدفعها الى ركوب موجة المزايدة، ما دام لا خوف من عقوبة عربية إسلامية.
وها هم الجنرالات الأتراك الذين يقمعون بالحديد والنار »الشعوب التركية«، بمختلف أعراقها وقومياتها وطوائفها، يتجرأون على العرب فيهددون بأن يتولوا بأنفسهم »تصحيح الأوضاع« و»تصدير« ديموقراطيتهم النموذجية إليهم!
إنها حرب على العرب، كل العرب، نفطيين وفقراء.
إن سوريا هي العنوان، لأنها قلعة الصمود والحارس الوحيد، في هذه اللحظة، لحقوق العرب في أرضهم، كل أرضهم، المحتلة منها أو المهددة بالاحتلال المشترك، التركي الإسرائيلي.
إن سوريا ومعها لبنان تخوض، مرة أخرى، معركة كل العرب.
ودعمها لا يقع في باب التضامن بل في باب حماية الذات وربما حماية الوجود…