ربع قرن من الظلم والظلمات ولما ينطفئ الغياب المشع كأعظم ما يكون الحضور.
وأخطر ما فيه انه لم يتحول الى اسطورة، بل ظل صلبù كالحقيقة، ولم تنجح المحاولات الخبيثة »لتطويبه« وليù صاحب كرامات، بحيث يصير ضريحه أهم من تجربته، وشفاعته أهم من أفكاره، وصورته أهم من دوره التاريخي في استنهاض الانسان العربي وتعزيز ايمانه بنفسه، بقدراته، بأرضه، بأمته المقهورة بالتخلف والتجهيل وزعامات العصبوية العشائرية والنسب الشريف.
ربما لأنه تطهر، فور رحيله، من اخطاء الحاكم وخطايا النظام المقصر عن مواكبة الثورة، وهذه وتلك هي مجمل الارث الذي تزاحم عليه فادعاه لانفسهم هؤلاء الذين يحكمون الآن في مصر وخارجها اما بصورته المشوهة عمدù واما برصيد عداوته الباقية بقدر ما يتأكد استمراره وعدù بالتغيير.
ربما لأن الانسان فيه، الصعيدي، المصري، العربي، الفقير، المقهور، المحروم من حقوقه في أرضه كما من حقوقه في »دولته«، ظل أقوى من »البكباشي« رئيس مجلس قيادة الثورة كما من »سيادة رئيس الجمهورية«.
لم يستطع أن يلغي حضوره السلاطين سواء في الممالك الفاحشة الثراء ام في الجمهوريات الملكية الفاحشة الفقراء.
طاردوا صوره فأتلفوها، وأحرقوا شرائط خطبه، واستكتبوا المنافقين والمخبرين والعاهرات، وأصدروا المجلدات الفخمة الطباعة للتشهير به انسانù، زوجù وأبù، ومن ثم حاكمù، قائدù وزعيمù، وصاحب رؤية متميزة وهائلة التأثير تجاوزت دائرة فعلها بلاده وامته الى أربع رياح الأرض،
لكن »الاخوة المواطنين« الذين دعاهم فاستجابوا ورفعوا رؤوسهم، وناداهم فلبوا النداء الى المقاومة والصمود لتحرير الأرض والانسان من قوة القهر الخارجية كما من الطغيان الداخلي، كانوا قد اسكنوه ضمائرهم، فبقوا معه، وبقي معهم بأصداء صيحته الخالدة في مواجهة العدوان الثلاثي العام 1956 »سنقاتل، سنقاتل، سنقاتل«، ثم باعترافه بمسؤوليته عن الهزيمة في العام 1967،
ورجوعه الفوري الى الميدان مسحا لآثار الهزيمة واستئنافا لمسيرة التحرير والتقدم والعدالة الاجتماعية، بقدرات الانسان العربي، وقد تبين انها خارقة وغير محدودة اذا ما آمن بأنه يملكها فعلا، وانه يستطيع بها تغيير الكون.
ها هو الآن وحده حيث استقر منذ جيلين او ثلاثة، في وجدان اولئك العاملين والطامحين والحالمين بغد افضل.
لقد سما، بعد الرحيل، على ما كانه في حياته، مات الحاكم، لكن ارادة التغيير التي اعلى رايتها استمرت اقوى وأصفى بعده. سقطت عنه آثام التجربة، فبات الآن رمزا مطهرا لأنبل ما يطمح اليه الانسان العربي: الكرامة، العزة، الحرية، الوحدة، العدالة، التقدم، واستعادة اهليته بالاسهام في الحضارة الانسانية، اي كل ما يفتقده ويفتقر اليه اليوم.
لم يعد »هو« الآن. صار تكثيفا لكل فكرة مبشرة بالتغيير، لكل معنى نبيل يتصل بتحقيق انسانية هذا الانسان الذي يكاد يسحقه الامتهان، لكل ما هو جميل. صوته تكثيف لكل الاصوات المتغلغلة في وجداننا من سيد درويش الى ام كلثوم، ومن عبد الوهاب الى فريد الاطرش وعبد الحليم حافظ وفيروز ووديع الصافي وناظم الغزالي، ولكل القصائد التي تعيش وأصحابها معنا، من المتنبي الى احمد شوقي، ومن الاخطلين الى الجواهري ومن السياب الى محمود درويش. فيه الآن خالد بن الوليد وصلاح الدين، فيه ابو ذر الغفاري وفيه احمد عرابي، وجمال الدين ومحمد عبده وسعد زغلول، فيه ابراهيم هنانو وعبد القادر الحسيني وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي والأمير عبد القادر الجزائري.
انه في الغد، وليس في الماضي، ولن تنفع كل مهرجانات التوقيع، على صكوك الاذعان، في البيت الأبيض وخارجه، في مسح »الخيار« الآخر الذي جسده، والذي سيظل قائدا وقدوة للأجيال الآتية والتي ستهتدي بوهجه برغم انها لم تعرفه ومنعت من التعرف اليه.. الى جمال عبد الناصر.