فيما كان اللبنانيون يستقبلون العام 2017، كانت نسبة عالية منهم تودع جريدة «السفير» اللبنانية التي أسسها ويملكها وترأس تحريرها منذ تأسيسها حتى لحظة إغلاقها، بقرار ذاتي طوعي منه، ابن الجنوب طلال سلمان.
ومنذ انطلاقتها في مطلع السبعينات من القرن الماضي، شكلت «السفير» ظاهرة إعلامية قادرة على إثارة الجدل في صفوف من يتابعون الحدث السياسي العربي بين مؤيد لموقفها من ذلك الحدث ومختلف معها في طريقة التعامل معه.
يصعب، بل ربما من غير المنصف تقويم «السفير»، من حيث المادة الصحفية التي تنشرها وطريقة التعامل معها، في حيز محدود مساحة، وقصير من حيث الفترة الزمنية التي انقضت على تنفيذ قرار غيابها.
لكن ربما، وعوضا عن التقويم الاستعانة بالإشارة إلى محطات مفصلية في تاريخ «السفير»تزود القارئ بشيء يعينه على فهم «السفير» كظاهرة مميزة في تاريخ الاعلام العربي الورقي المعاصر.
شكل انطلاقة «السفير» في العام 1974 فارقة إعلامية، عبرت في حينها، واستمرت طيلة حياتها، عن اصطفافات القوى السياسية العربية، ولذا كان عليها، بوعي او بدون وعي، ان تختار طابورها السياسي الذي تريد أن تنتمي إليه، وتعبر عن همومه وتطلعاته، بل وحتى أزماته. ومن هنا لم يكن الشعار الذي تبنته الذي مزج بشكل مبدع بين صورة حمامة الزاجل ونص «على الطريق» بعيدا عن ذلك الاختيار. وهذا يفسر هجرة العديد من الأقلام العربية الشابة التي كانت تعمل في الصحافة اللبنانية حينها، والكثير منها كان من كوادر الحركة السياسية العربية ممن أرغمتهم ظروفهم على التيه في المهاجر، إلى «السفير» بحثا عن مساحة، ولو محدودة كي ينشروا ما كانت تختزنه صدورهم وقتها من مادة كانت «السفير» ملاذهم العلني الوحيد للبوح به.
لم تكن «السفير» في تلك المنعطفات المفصلية قادرة على الاحتفاظ بموضوعيتها الإعلامية التي كانت تفرضها عليها طبيعتها كصحيفة يومية، أو تتطلبها شروط المنافسة في السوق الإعلامية اللبنانية، التي كانت تمتع بأوسع هامش من الحريات من جانب، لكنها في الوقت ذاته ترتبط كثيرا ببيوت المال العربية التي كانت تجد في تلك الصحف مجالا للإفصاح عن سياسات حكوماتها التي لم يكن في وسعها الكشف عنها في صحافتها المحلية.
إحدى المنعطفات المصيرية الأخرى التي فرضت على «السفير» السير في حقل من الألغام الذي لم يكن غيرها، وتحت قيادة طلال سلمان، النجاة منه، كان غياب الإمام موسى الصدر خلال زيارة رسمية في ليبيا في نهاية السبعينات.
فقد كان على «السفير» حينها أن تتناول الموضوع بشيء من الحنكة الممزوجة بسعة الصدر، وكان عليها ان تمارس ذلك بدقة متناهية عند حلول ذكرى غيابه.
كان ذلك بسبب علاقاتها الوثيقة مع النظام الليبي حينها من جانب، وروابطها مع الشارع الشيعي اللبناني من جانب آخر.
المحطة الثالثة في مسرة «السفير» الإعلامية، كانت العلاقة الجدلية التي تربطها مع القضية الفلسطينية، وعلى وجه التحديد موازييك فصائلها، خاصة بعد خروج تلك الفصائل من عمان إثر مجازر أيلول وانتقالها، بكل ما كانت تحمله من اختلافات في المواقف تصل إلى المماحكات، إلى لبنان.
وجدت «السفير» نفسها مرة أخرى، مضطرة للاحتفاظ باعتدالها السياسي وسط موجات بحور الخلافات الفلسطينية المتلاطمة.
كان رئيس تحريرها طلال سلمان الذي يعرف باسم أبو أحمد أشبه بلاعب السيرك الذي يحاول الاحتفاظ بتوازنه على سلك دقيق، تكفي أقل هفوة منه إلى تدمير مستقبله المهني.
يزداد الأمر تعقيدا عندما يكون بين المحررين الرئيسين في «السفير»، من هم موزعين، بحكم انتماءاتهم، على فصائل الثورة.
كان على أبو أحمد في كل لحظة، وخاصة خلال منعطفات الثورة الفلسطينية الحادة، وهي كثيرة وسريعة التكرار، أن يمتلك صبر أيوب، وحكمة سليمان، وحزم عمر، وبراعة لاعب السيرك.
ومن المنعطفات الحادة التي لا يعرفها الكثيرون، بمن فيهم من يعتبر نفسه قريبا جدا من «السفير»، وربما كان أحد العاملين فيها، هي تلك الزيارة التاريخية التي قام بها طلال سلمان إلى الرياض في مطلع الثمانينات إثر تلقيه دعوة رسمية من أمير الرياض حينها الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وفي أعقاب اقتحام الحرم المكي بقيادة جهيمان العتيبي ومجموعته في مطلع القرن الهجري الموافق 20 نوفمبر 1979.
كانت «السفير» أكثر الصحف اللبنانية تعاطفا مع تلك الحركة، وكانت الدعوة التي قبلها أبو أحمد مفاجئة.
وربما آن الأوان كي يكشف أبو أحمد عن الكثير من المشاهدات والحوارات التي تخللت تلك الزيارة، بما فيها اللقاءات المتعددة المطولة المنفردة مع الأمير سلمان ذاته.
وعلى المستوى الخليجي، كانت هناك مواقف «السفير» من الثورة العمانية، فقد كانت «السفير» كجريدة، ومعها «الحرية» كمجلة من أكثر المؤسسات الإعلامية تعاطفا مع تلك الثورة.
وكان من بين طاقم محرري «السفير» أحد مناضلي تلك الثورة.
وكان شابا في مقتبل العمر، وكان «واجبه» النضالي يحتم عليه اعتبار «السفير» صحيفة الثورة.
وكان ذلك الاندفاع «الثوري» يضع فريق التحرير أمام إحراجات كثيرة مصدرها حرصهم على الموازنة الدقيقة بين مقاييسهم المهنية وتعاطفهم مع الحالة «الثورية»، التي يمثلها زميلهم الخليجي.
لا شك أن غياب «السفير» في هذه المرحلة من تاريخ الأمة العربية المعاصر خسارة كبيرة، وعلى أكثر من مستوى، ليس الإعلامي سوى واحد منها.
فنحن اليوم امام منعطف تاريخي يحتاج إلى منفذ إعلامي مثل «السفير» يقوده شخص مثل طلال سلمان، الذي يدرك من يعرفه عن قرب، أنه جاهد كثيرا طيلة السنوات الأربعين الماضية كي تستمر «السفير»، وان ترجلها اليوم هو أصعب قرار ربما اتخذه أبو أحمد في حياته المهنية المليئة بالمنعطفات والالتواءات.
غياب «السفير» ورقيا لا يمكن أن يمحي من الذاكرة الإعلامية/ السياسية العربية المعاصرة صورة حمامة الزاجل وهي تسير «على الطريق» حاملة تلك الرسالة التي ما تزال تنتظر وتتطلع إلى من يبادر إلى حملها بغض النظر عما يدور من جدل اليوم حول «السفير».
عبيدلي العبيدلي