كشفت الانتفاضات الشعبية التي تفجرت في العديد من الأقطار العربية، لا سيما تلك التي انتصرت فأزاحت حكم الطغيان، حجم الخراب في هياكل الدول كما في المجتمعات، فإذا السلطة الجديدة ـ وهي بطبيعتها موقتة ـ لا تعرف من أين تبدأ وكيف تتخلص من «العهد البائد» الضاربة جذوره عميقاً في مختلف جوانب الحياة.
تبيّن أن «الدولة» قد قزمت حتى صيِّرت ـ بمختلف مؤسساتها وإداراتها ـ مجرد أداة تنفيذية في خدمة الطاغية تقوم على تحقيق مصالحه وأغراضه وتلبي احتياجاته ورغباته: يعيّن فيها ولها المطيع لا الكفؤ، يعاقب أهل النزاهة وأصحاب الرأي من المخلصين «لدولتهم» وحقوقها بالإقصاء عن موقع القرار، أو بإلغاء صلاحياتهم، أو بإلحاقهم بمن تعوّدوا أن ينفذوا بلا نقاش وبمنطق: «حاضر يا فندم… تقدر سيادتك تطمئن!».
الوزارات تكايا للمحظوظين الذين صُيِّروا وزراء لأنهم يعرفون كيف يحققون مطالب «السيد الرئيس» وسائر أفراد أسرته، السيدة الأولى بداية ثم الأنجال فشركاء الأنجال، وبعدهم يأتي دور أولئك «العباقرة» من رجال الأعمال الذين سيحققون أحلام السيد الرئيس في النهوض الاقتصادي والانتساب إلى عالم التقدم، مع توفير الضمانات لمستقبل آمن عبر بعض الاستثمارات وتوظيفها في مشروعات إنتاجية مضمونة الربح بكفالة شركات عالمية «ستمنح بعض الامتيازات مكافأة لها على اختيارها دولتنا من بين دول عدة مستعدة لأن تقدم لها أكثر».
تصير «الدولة» أشبه بمزرعة لأهل السلطان، الربح لهم، مباشرة أو مداورة والخسارة على مجموع الشعب، الفقير أصلاً، والذي لا مجال لأن تزداد أحواله سوءاً… «فأين سكان العشوائيات في سفح جبل المقطم مثلاً، أو في المقابر، من أسباب التقدم العلمي المذهل، وأي مجنون يفكر بالتصدي الآن لحل مشاكلهم؟ غداً، في ظل النهضة السياحية والطفرة المالية، ونجاحات البورصة يمكن أن نباشر في وضع خطة شاملة لإجلائهم إلى حيث يمكن أن يسكنوا من دون أن يشاغبوا على جهودنا من أجل النهوض بالوطن جميعاً… ثم إن الله يقسم الأرزاق، يعطي من يشاء بغير حساب، فهل سنحل نحن محل ربنا، له العزة والإجلال».
تتحوّل الإدارات العامة إلى دوائر للبصم على قرارات «الناس اللي فوق»، بغض النظر عن مدى ملاءمتها للقوانين والأصول المرعية الإجراء… أما مؤسسات «القطاع العام» فهي عبء على الخزينة العامة: «متى كانت الدولة تاجراً أو صناعياً أو مزارعاً؟»… في أي حال، ولكي تكون في خدمة الدولة، فلا بد من أن يعود القرار فيها لشخص السلطان وأصحاب الحظوة لديه.
… ولأن الزور والتزوير والغلط المقصود في الأشخاص والمشاريع المفصلة على مقاس أصحاب الحظوة، كل ذلك لا يمكن أن يمر بلا حماية، فقد صار لكل متنفذ جاء به «السلطان» من خارج الكفاءة وأصول التعيين، من يحميه ويمنع عنه المحاسبة.
من باب الاحتياط، لا بد من بعض الحماية التي تتجاوز الأطر الرسمية والتي يمكن أن يوفرها بعض «متعهدي الأنفار» الذين يعرفون «البلطجية» وأثمان خدماتهم، وهؤلاء متوفرون بكثرة بين أصحاب السوابق، كما بين سكان المقابر أو العشش، وإن ظل الأفضل من بينهم من يؤتى به من الأرياف، هؤلاء الذين لا يأتمرون إلا بتعليمات من استقدمهم فوظفهم ومنحهم مرتبات مجزية وطلب إليهم أن يمنعوا الهواء من أن يعكّر عليه صفو أيام الربح والاستمتاع بالمكاسب التي لا بد من أن يخفي بعضها قبل أن يقدم «حقوق السلطان» و«شلة الإنس» من شركائه الذين يصيرون أصدقاء، ثم قد تسعده الأقدار بمصاهرتهم.
من باب الاحتياط أيضاً لا بد من «تأمين» أجهزة الأمن عبر اختيار المخلصين لقيادتها، فإذا ما طرأ طارئ، أنزلوا رجالهم ـ بمختلف تسمياتهم ـ وليس ضرورياً أن يكونوا بالبزة الرسمية، لتأديب من قد تسوّل له نفسه الاعتراض أو المساءلة…
تأخذ الفطنة إلى التحسب لأشتات المعارضين الذين قد يفكرون بالنزول إلى الشارع، وهؤلاء أمرهم سهل: يجري تقسيمهم بشراء بعضهم، والتشهير بالآخرين عن طريق توجيه سلسلة من الاتهامات إليهم، قد تكون «الشيوعية» كما قد تكون «الأصولية»… أما السلاح الاستراتيجي فهو الطائفية التي لا مجال لمواجهتها، لأن المواجهة تؤجج نيرانها فتنتشر ألسنتها الحارقة في كل الاتجاهات، فضلاً عن أن النظام يكتسب من مقاومتها رصيداً إضافياً فيتبدى في صورة «حامي الوحدة الوطنية» و«ضامن التآخي بين فئات الشعب الواحد» و«حارس الإيمان من التلوث بجراثيم التعصب الطائفي»!
وليس ضرورياً أن ينتظر الطغيان انفجار الفتنة، بل هو من قد يلجأ إلى تفجيرها إذا ما وجد في نارها تأميناً لسلطانه: أليس هو مرجع الشعب جميعاً، بكل فئاته وأطيافه وعائلاته الروحية؟!
انسف كنيسة في ليلة عيد تشعل فتنة عمياء! أطلق شائعة عن إقدام امرأة على تغيير دينها لتتزوج عشيقاً تحرق مدينة! فالتعصب يستدرج التعصب، ولا من يطفئ النار؟!
في تونس، مثلاً، لا مجال لإثارة الفتنة الطائفية، لكن المجال يتسع لفتن أخرى قد تأخذ طابع «الجهوية»، ريف في مقابل مدينة، أو جنوب في مقابل شمال.
أما في مصر وسائر المشرق العربي فإن الطائفية سلاح استراتيجي فعال ومضمون النتائج، إنها مرض مزمن لم تتم معالجته، وغالباً بقصد مقصود، لتبقى استثماراً سريع الاشتعال ومضمون النتائج.
ولقد شهدنا في لبنان من التجارب المرة بحيث استحال علينا أن نكون «مواطنين في دولة واحدة»، وتوزعنا طوائف ومذاهب جاهزة للاقتتال غب الطلب… وإن تفوّق علينا العراقيون تحت الاحتلال الأميركي الذي تعامل معهم بالذكريات السوداء لحقبة الطغيان التي تعاملت معهم بطوائفهم وعناصرهم بحيث بات ممكناً تفجير مسلسل من الحروب الأهلية التي لا تنتهي، ذاق مرارتها المسلمون، سنة وشيعة، ومعهم الأكراد، وإن دفع ضريبتها الأثقل المسيحيون، وما زال باب جهنم مفتوحاً يتهدد وحدة الشعب بعدما كادت وحدة الدولة تحترق في أتونه.
والأمل أن تكون الانتفاضات الشعبية التي اتخذت من «الميدان» الذي تلاقى فيه الجميع خلف أهدافهم الوطنية، أعظم وعياً وأقوى إيماناً من السقوط في فخ هذه الآفة آكلة الثورات والدول والشعوب جميعاً.
قلوبنا، في هذه اللحظة، مع ثورة مصر التي انتصرت على الطغيان برؤوس رموزه السياسية والاقتصادية، أن يمكنها وعي قياداتها الشابة المحصنة بالتماسك التاريخي للمجتمع المصري، من تخطي هذا الامتحان القاسي الذي لا بد من النجاح فيه مهما تعاظمت أكلافه التي تبقى ثانوية قياساً إلى الإنجاز الباهر الذي تساعد طبيعة شعب مصر المؤمن والطيب على تحقيقه.
ودائماً كان الإيمان طريقاً إلى الله بينما التعصب يحرق الأوطان وأهلها في نار جهنم.. ولا مغيث إلا الوحدة الوطنية والانتصار بالوعي على الغرائز ومن يستفيد من إحراق الأوطان!