تجيء انتخابات رئيس جديد لحكومة إسرائيل، بتوقيتها والمناخ الدموي الذي يظللها، وانحصارها بين مرشحيْن ينافس كل منهما الآخر بسجله الدموي، داخل فلسطين وخارجها، لا سيما في لبنان، موعدا قدريا »للصوت العربي« داخل الكيان الصهيوني لكي يعلن ما لا يملك أحد غيره حق إعلانه حول طبيعة إسرائيل نفسها ومن ثم حول انتخاباتها وعلاقتها بالديموقراطية وأخيرا حول »صراع الثورين« الدمويين في الحلبة المغلقة عليهما.
وهو »موعد قدري« لأنه يجيء في لحظة سياسية توفر للفلسطيني مجموعة من الفرص الاستثنائية:
} فإسرائيل منشقة على ذاتها كما لم تكن في أي يوم مضى، وليس على أساس »عقائدي« يوزع قواها السياسية بين »يسار« و»يمين«، بل على أساس »عرقية داخل العنصرية«، وتعصب أعمى داخل التدين،
} والمرشحان المتنافسان يضيفان البُعد الدموي إلى الصراع الداخلي خارج السياسة، فتشحب صورة انتصاراتهما العسكرية لترسخ في الذهن ملامح السفاحين الذين بنوا أمجادهم بجثث الأطفال والفتية والنساء والعزل إجمالاً من أبناء المخيمات المتروكين للريح،
} ثم ان الانتفاضة المجيدة قد عرّت إسرائيل كلها وكشفتها، بكل فئاتها وتنظيماتها، فإذا خيارها »الديموقراطي« ضيق بين واحد من السفاحين..
} ومن قبل كانت هذه الانتفاضة قد وفرت لفلسطينيي الداخل (عرب 1948) الفرصة لأن يعودوا إلى الحياة، ويدفعوا صوتهم مؤكدين هويتهم ووجودهم بعدما كان القهر الإسرائيلي والتخلي العربي والشعور بالهوان قد »غيّبهم« لعقود طويلة: فإذا حقيقتهم الباهرة تقتحم العالم الذي كان قد نسيهم تماما، وتضيف إلى النضال الفلسطيني رصيدا ممتازا،
} الأهم والأخطر أن عودتهم قد أسهمت في فضح زيف الادعاءات الإسرائيلية، فإذا هؤلاء الذين تحتسبهم في عداد »مواطنيها« ليسوا مواطنين فيها، وإذا هم مضطهدون داخل كيانها بقدر ما تضطهد هي أخوانهم »خارج« الكيان،
إن هؤلاء »المهمشين« والمنكورة عليهم هويتهم، كانوا يعاملون دائما وكأنهم »خزان احتياطي« للأصوات، وكانت أوضاعهم البائسة إلى حد الاضطهاد اليومي تأخذهم في العادة إلى تأييد الأكثر تطرفا ودموية، ربما بوهم تجنب المزيد من الإذلال والقهر.
كانوا على حد تعبير أحد المحللين الممتازين يعيشون مفارقة موجعة: فإسرائيل تجعلهم خارج معادلة الاندماج، ومن ثم خارج »نعم« الديموقراطية الإسرائيلية، و»السلطة« تجعلهم خارج النضال الفلسطيني.
على اختلاف العهود وتقلّب الحكومات بين »اليسار« و»اليمين« الذي لا يفصل بينهما فاصل جدي، ظل هؤلاء الفلسطينيون المفروضة عليهم »الأسرألة« خارج سياق الصراع السياسي المحصور عمليا بين اليهود في دولتهم… وهم ليسوا يهودا ولا إسرائيل هي دولتهم.
ثم ان الانتخابات الإسرائيلية التي تجري تحت أنظار العالم كله الذي يداري الآن »خجله« من النجاح شبه المؤكد لسفاح صبرا وشاتيلا أرييل شارون، فرصة أمام هؤلاء »المنبوذين« بسبب من فلسطينيتهم لتقديم دعم »سياسي« و»معنوي« مؤثر لأشقائهم خارج الكيان وداخل »الاحتلال«، الذين يخوضون غمار انتفاضتهم المجيدة لمحاولة تأكيد الحد الأدنى من حقوقهم كبشر في الحد الأدنى من حقهم في أرضهم التاريخية، كوطن.
كذلك فهي فرصة لفضح هذه العنصرية الإسرائيلية التي تتلفع بثوب من الديموقراطية المفصلة على مقاس اليهود، وربما على مقاس اليهود الغربيين منهم، وإن كان الصوت اليهودي الشرقي يكسب مزيدا من الوزن نتيجة التكاثر وتفاقم التعصب وليس نتيجة الرحابة الفكرية.
إن أحداً لا يدعو ولا يريد لفلسطينيي 1948 أن ينتحروا.
كذلك فليس من حق الذين في »الخارج« أن يزايدوا على هؤلاء الذين يموتون »في الداخل« ألف مرة في اليوم منذ خمسين عاماً أو يزيد، ولا أن يدفعهم إلى عملية انتحار جماعي.
لكن الامتناع أو التصويت بورقة بيضاء هو دعم ممتاز للانتفاضة، وهو إسقاط مسبق لادعاء »الفائز« من السفاحين أنه إنما جاء إلى الحكم، أي إلى حيث سيكمل ضرب الانتفاضة، معززا بأصوات فلسطينيي الداخل.
إنها فرصة فلسطينيي الداخل لكي يؤكدوا حضورهم مرتين، وفي المرتين سيكون التأكيد لحضور فلسطين: الأرض والوطن والقضية.