الحمد لله على نعمه الكثيرة، وبينها هذه »الهدنة الرئاسية« في لبنان التي نجمت عن الحل السياسي بامتياز، والحل الاقتصادي السحري، لمعضلة الهاتف الخلوي وعائداته الذهبية ولمن يعود ريعها وبأية نسبة، والتي شغلتنا بل حاصرتنا لمدة شهرين أو يزيد في دائرة بدت مغلقة مما هدّد الدولة وشعبها بالاختناق في غابة الأرقام المتشابكة والمتضاربة والمتناقضة بحيث ضاعت الحقيقة وضاع الباحثون عنها.
الحمد لله على ان هذه الهدنة الرئاسية ما تزال مستمرة لليوم الرابع على التوالي، مما سمح لرئيس الجمهورية ان يضع حجر الأساس للسد المرتجى في شبروح بأعالي كسروان إظهارا للتوازن الإنمائي عند دولة الإحباطات الطائفية، وسمح للرئيس الثالث أن يذهب في إجازة قصيرة لإعادة حساب الأرباح والخسائر في حين انصرف الرئيس الثاني إلى إحصاء المكاسب التي جناها من وساطته بين الشريكين اللدودين في مجلس الوزراء، خصوصا أنه دخل »حقل الألغام« الهاتفي من باب الاضطرار واستجابة لنداء دعاه الى دور المنقذ فنجح فيه بأكثر مما توقع وبأكثر مما تمنى أطراف الخلاف، الظاهر منهم والمستتر.
الحمد لله على نعمه الكثيرة، ومنها أننا بتنا قادرين على الالتفات الى بعض الشؤون التفصيلية كمثل ما تدبره إسرائيل (ومعها الولايات المتحدة الأميركية) للعرب في فلسطين، وما تدبره الولايات المتحدة الأميركية (ومعها إسرائيل بطبيعة الحال) للعرب في العراق ومعه سوريا ولبنان والسعودية وسائر الخليج (وإيران بالاستطراد)..
وتقضي الأمانة بأن نشهد ان يوم الأحد، الرابع من آب 2002 كان يوماً فلسطينياً بامتياز، بمعنى انه شهد فصلاً مهماً من فصول المقاومة البطولية للاحتلال الإسرائيلي، الى حد لم يتورع معه أرييل شارون عن وصف مجرياته ب»الكارثة«.
وإذا ما تجاوزنا المعاني أو الدلالات المبسطة لمقولة ان ما وقع، وما سوف يقع غدا وبعد غد، إنما يندرج في خانة »الثأر« لشهداء المجرزة الإسرائيلية في غزة، قبل ثلاثة عشر يوماً، والتي كان ضحاياها الخمس عشرة من الأهالي »المدنيين«، بينهم تسعة أطفال، فضلاً عن قائد كتائب عز الدين القسام صلاح شحادة.
إذا ما تجاوزنا ذلك وقرأنا أحداث المقاومة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة، قبل 1948 وبعدها، في الأيام القليلة الماضية، لفهمنا معنى ان يعتبر الرئيس الأميركي جورج بوش أمس الأحد »يوم حزن«… خصوصاً وقد أفسدت عليه »عملية صفد« مباراة الغولف مع أبيه الذي أخرجه »الانتصار الكبير« من موقعه في الرئاسة قبل عشرة أعوام.
فبقدر ما تبدو هذه العمليات المقاومة فردية أو حصيلة جهد تنظيم سياسي محدود القدرات والفاعلية، فإنها تكاد تتخذ شكل »الهجوم المضاد« اليتيم على المخطط المعادي (علناً) للعرب والمسلمين، والذي يملأ صفحات الصحف ونشرات أخبار الفضائيات العربية قبل الأجنبية »بالأخبار« والتحليلات والتقديرات والتبريرات لما أسمته الولايات المتحدة الأميركية »الحرب على الإرهاب« ثم باشرت إسرائيل تنفيذ الجزء الأخطر والأعظم دموية منه.
إن هذه العمليات الباسلة تتخطى ميدان تنفيذها واستهدافاتها المباشرة من جند العدو الإسرائيلي أو من جيشه الثاني ممثلاً بالمستعمرين (الذين نتبرع لهم خطأ بصفة مستوطنين، وكأنما الأرض الفلسطينية بلا مواطنين يملكونها وقد ورثوها كابراً عن كابر منذ آلاف السنين)، لتشكل آخر خط دفاعي عن الأمة العربية وجيرانها الأقربين، وأبرزهم إيران.
إن كسر معنويات الجيش الإسرائيلي، وإرباك الحياة اليومية للعدو، والشلل الذي يضرب الاقتصاد الاسرائيلي فيهجر »المهاجرين« الآتين من أربع رياح الأرض الى أرض الميعاد، ويعيد الشركات الكبرى المتخصصة في التقنية العالية من حيث جاءت، ويفسد الموسم السياحي، ويذيق الاسرائيليين من الرعب مثل ما يذيقونه لشعب فلسطين شبه الأعزل..
إن لهذا كله من الآثار والمترتبات السياسية ما يتجاوز الإطار العسكري الى الصعيد السياسي، فيعيد التأكيد على حقائق الأمور: هي مقاومة للاحتلال، وهي محاولات للرد على الاجتياح والقتل الجماعي وتهديم الأحياء في المدن والقرى، والاعتقالات الكيفية وبالجملة لكل شباب فلسطين، عشوائيا وبلا اتهام محدد، والاغتيال بواسطة الطائرات والحوامات ومدافع الدبابات، هذا فضلا عن التجويع المفتوح لشعب بكامله، بالنساء والأطفال والرضع، بالشيوخ والعجزة والشباب.
إن هذه العمليات تتخطى نطاق الاستشهاد الفردي لتعيد التوكيد على أصل القضية: الاحتلال هو الارهاب، والمقاومة هي المقاومة… وهي مقاومة للاحتلال وللتواطؤ الدولي معه بالقيادة الأميركية، وللتخاذل العربي الذي لا يتورع عن التآمر على أي جهد مقاوم ليحظى بنعمة الرضا الأميركي.
إن العرب هم الضحية النموذجية للارهاب الأميركي الاسرائيلي.
وأسوأ ما في وضعهم هذا تخاذل أنظمتهم بل تواطؤها على روح المقاومة والاعتراض، وسعيها لفرض الاستسلام على شعب فلسطين لتخلص من شبهة مساعدته (ولو ببعض المواد الغذائية وسيارات الإسعاف والأمصال والأدوية والمسكنات..).
ولو تم الربط، مثلا، بين »المبادرة العربية« وبين المقاومة الباسلة في الأرض المحتلة، لاكتسبت تلك المبادرة قيمة استثنائية جعلتها مدخلا الى حل سياسي لمشكلة سياسية فضلا عن كونها مأساة إنسانية يتهم ضحاياها بعد إعدامهم بالارهاب..
أما وان المبادرة أطلقت بغير طلب، ومن موقع دفاعي ضعيف، وبغير أي سند من القوة أو أي بديل جدي ومؤثر كرد على رفضها، فمن الطبيعي أن تهمل، أو أن تعتبر السقف الذي يعجز العرب عن الوصول إليه، ومن ثم تبدأ المساومة على جلد الفلسطيني..
وأما ان القيادة الفلسطينية الرسمية مشغولة بنفسها تحاول أن تحتال على استمرار »سلطتها« بإعلان قبولها ثم مباشرتها تنفيذ برنامج »الإصلاح« الاسرائيلي الأميركي، بحيث تطهّر نفسها من الفساد وتعتنق الديموقراطية وتطارد المقاومين نيابة عن الاحتلال.. فمن الطبيعي أن يواصل شعب فلسطين مقاومته بالوسائل المتيسرة.
لقد قدم ارييل شارون »خدمة« جليلة لشعب فلسطين أعاد معها تأكيد صورته الأصلية كضحية، كما أعاد تقديم نفسه مرة أخرى بصورة »السفاح« قاتل الأطفال.
أما جهد بعض الأنظمة العربية لتبرئة نفسها من تهمة الإرهاب بالتواطؤ على هذا الشعب العربي أو ذاك، فلن ينفعها كثيرا لدى الأميركيين أو لدى الاسرائيليين، وسيفقدها في الوقت ذاته »شرعيتها« الموروثة أو المفروضة بقوة السلاح والدعم الأجنبي.
والمعركة مفتوحة بعد، ومداها طويل..