طلال سلمان

فلسطين خارج سياسة

صارت الكتابة عن فلسطين عملاً إرهابياً.
صارت كلمة »فلسطين« إرهاباً يمتنع العرب عن ذكرها حتى لا يؤاخذوا بها متلبسين بالجرم المشهود فيوقع عليهم العقاب الشديد.
صار شعب فلسطين مجرد إحصائية: تطرح أعداد الشهداء، المتزايدين على مدار الساعة، من مجموع السكان، بمن فيهم المواليد الجدد بنسبهم المرتفعة، فتعرف أعداد المنذورين للموت غداً أو بعد غد، بالقصف الجوي المباشر أو بمدافع الدبابات أو بالاغتيالات المخططة بدم بارد.
صارت أرض فلسطين مجرد مساحات مرشحة للتناقص يومياً: تستخرج من إجمالها ما التهمته مستعمرات وحوش المستوطنين، وما قضمه وسوف يقضمه جدار الفصل العنصري و»حرمه الواقي« وأبراج حراسته، وما سوف تصادره سلطات الاحتلال لمستعمرات الغد، فإذا ما تبقى لا يكفي لخريطة الطريق الأميركية ولرؤى إدارة جورج بوش للدولة الفلسطينية التي في جيب الدولة الإسرائيلية (على طريقة الكنغارو)، ولكن لا بأس من مواصلة الحديث عنها، ما دام العرب قوم كلام تطربهم الوعود والقرارات التي تذروها الريح فلا يأسفون عليها وإن هم استمروا يطالبون بها توكيداً لالتزامهم »القضية المقدسة«.
صار الحديث عن التضامن مع شعب فلسطين، إضافة إلى كونه إرهاباً، استفزازاً للإدارة الأميركية التي لن تعترف بهذا الشعب حتى يتخلص من »قيادته الفاسدة« التي ترفض الإصلاح المؤهل لأن يكون الأساس الثابت لدولة الأوهام.
صار إرسال المعونات الغذائية إرهاباً، وكذلك إرسال سيارات الإسعاف والمعدات الطبية إلى المستشفيات والمستوصفات التي استنزفتها طوارئ علاج الجرحى (الذين كثيراً ما يعجل في موتهم النزف) والمرضى، وفيهم أطفال ونساء وشيوخ وفتية يتشوقون إلى فرح الحياة.
صار القيام بحملات تبرع للذين شرّدهم عسكر الاحتلال بعد هدم بيوتهم، وبعد تحطيم مباني الجامعات والمدارس الفقيرة التي دمرتها دبابات الاحتلال إرهاباً…
صارت الجمعيات الخيرية وتبرعات المحسنين والمتصدقين دعماً للإرهاب.
وصارت المصارف التي تقبل التبرعات والصدقات والزكاة على القائمة السوداء، شأنها شأن المنظمات الإرهابية… وها هي الحملة على البنك العربي تكاد تبلغ مستوى الحرب لمنع أي قرش من الوصول إلى الشعب الذي يكاد يكون، في ظل الحصار، بلا دخل يمكِّن من شراء الطعام والدواء.
أي إرهاب أفظع من أن تمنع نجدة طفل يحتضر أو امرأة حامل تموت عند حاجز الإذلال اليومي فيجيء رضيعها إلى الحياة ولا أم تحضنه فترضعه من حليبها وتغرس فيه حب الحياة التي هي وطنه.
ولأن سلاطين العرب حريصون على دفع شبهة مساندة الإرهاب عنهم، فهم قد شطبوا فلسطين، بشعبها وأرضها و»سلطتها« التي تذوي فتكاد تضمحل، من لغتهم اليومية فضلاً عن اهتماماتهم أو محادثاتهم الرسمية مع إمبراطور الكون الأميركي.
صارت فلسطين خارج السياسة، عربياً في البداية، ومن ثم دولياً، ولم يعد لزيارات الشجعان من المسؤولين الأوروبيين غير معنى المجاملة والنصيحة بهجر المقاومة وإدانة منظماتها بجريرة الإرهاب وإصلاح السلطة الفاسدة وتوحيد أجهزتها الأمنية لتمنع الحمل من الهجوم على الذئب!
حتى وكلاء التفليسة، ممثلين بالأجهزة الأمنية المصرية والأردنية، أعلنوا توقفهم عن بذل مساعيهم الحميدة، ليأسهم من »السلطة« المحاصرة والعاجزة عن الخروج إلى الشمس، مما »أحرجهم« مع رجل السلام الإسرائيلي أرييل شارون، والأخطر مع صاحب »الرؤى المقدسة« جورج و. بوش.
فلسطين خارج السياسة، وخارج دائرة الاهتمام الشعبي أيضاً، متروكة لمصيرها بعدما عز النصير، فمن عنده من الشجاعة ما يكفي لتحمّل تبعة الإرهاب، من بين العرب (والمسلمين) المدانين من قبل معرفة أسمائهم ووجوههم؟!
… وحدهم أمثال محمد البرادعي من بين العرب يلقون الترحيب الإسرائيلي بعدما طمأنهم أنه لا يأتي للتفتيش على رؤوسهم النووية أو على مفاعل ديمونا، وإنما جاء ليقدم إليهم باسم الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما يحتاجون إليه من مساعدات لمفاعلهم النووي في مجال الأدوية ومعالجة الأمراض الناجمة عن الإشعاع.
لقد تفضل هذا البرادعي فأضفى الصفات الإنسانية النبيلة على أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية، بينما ما تزال تتردد أصداء شهادته الكاذبة حول تلك الأسلحة (التي لم يعثر عليها الخبراء الأميركيون والبريطانيون، بعد).
فلسطين تضمحل، أمام عيون العالم، فيصادر الإسرائيليون أرضها ويحاصرون شعبها حتى الموت في »معازل«، تمهيداً لأن يخرجوا من يصمد فتكتب له الحياة إلى أي مكان خارجها…
وبهذا يتم القضاء على الإرهاب، فيرتاح العرب وينامون ملء جفونهم في ظل السلام الإسرائيلي المعزز بالاحتلال الأميركي للأرض (خارج فلسطين) وللإرادة جميعاً.

Exit mobile version