هذه بلاد واقعية وسافرة. سابقاً، الدول تعيش على أسرار مكتومة وسياسات معلنة. والصراع كان صراطاً بكل تضاريسه. كل محاولات تنظيم الفوضى باءت بالفشل. العنف والعدوان هما صراط سياسي يعود إلى بدايات التوحش الحضاري.
إنما، كانت السياسات تنحو إلى تطعيم الاجتياحات، بعناوين في مقام الكذب والدجل. الحروب بحاجة إلى “قيم” ورسالات وأديان ومذاهب ومسار حضارات. كل الارتكابات بريئة من أي انتساب للإنسان. حتى الحروب الدينية، في كل الأديان والمذاهب، كانت ضد “الله”، ولصالح شياطين المصالح، وطموحات العظمة وغزو الشعوب: فالسلطة سابقاً ولاحقاً، ليست خادمة بل مخدومة، وبالقوة والشراسة والشراهة.
إنه لا أمر إنساني دائم. وعليه، لا حاجة لنا إلى تفسير التاريخ والوقائع، على ضوء الحقائق وتحقيق الرفاهية.. التاريخ يكذب أكثر من المستطاع. أشبعونا تديناً وتعصباً وقتلاً وكذباً واحتقاراً. لذا، صحّ القول الأبدي: الويل للضعفاء. الويل للمهزومين. الشهادة على ذلك أن القرن العشرين هو أكثر القرون توحشاً. فسلام الآن على زمن تراكم فيه الكلام وتفلسف فيه العقل وتضرجت الأخلاق والقيم.
لا بد من قراءة التاريخ بالمقلوب. أي، لا بد من انتزاع كل صفة إيجابية تسبغ على الأفعال اللاإنسانية. التي ارتكبها أهل القوة، لا أهل العقل والخير والجمال والحرية.
لم يبقَ لنا، على مرّ التاريخ، سوى وجه الرعب المستدام. وأحد وجوه الرعب هو الحرب.
أين نحن الآن؟
انسوا ما يلي: الحرية، الحياة، المساواة، العدالة، المحاسبة، المساءلة، الديموقراطية.. وحوار الحضارات. هذه ترهات مخيلات جميلة. نتبع قول الشاعر: “كن جميلاً ترى الوجود جميلاً”. غلط. كل القيم والأخلاق، أساطير من ورق، وزينة الاحتفالات..
انه عالم مظلم وظالم. وأفدح الظلم ترتكبه دول “تؤمن” بالحق والتقدم والحرية والتنمية ومساعدة الشعوب وحل مسألة الأقليات والتمهيد لمشاريع محاربة الأوبئة دفاعاً عن بيئة نظيفة.
النفاق هو نفط سياسي مستدام. الدول ترتكب. الحكومات تكذب. المبشرون بالتقدم والتقنية والمعرفة هم الذين يتعاملون مع أنماط بشرية، بهدف تمدينها، وربطها بقافلة الذين يؤمنون بألوهة المال.
إن وجود القادة ظاهرة ملازمة لأشكال المجتمع، وكتابة جدول أعمال الغد. والغد راهناً، لا يولد، إلا بإذن الممسكين بصناديق المال ومناجم الذهب وفيوضات النفط، وتلقين الإنسان برنامج حياته، ليصبح قارئاً جيداً للإملاءات الرأسمالية والشركات التي تتوافق على قاعدة التنافس والسحق والاستتباع.
وعليه، لم أعد راغباً البتة بأي شعار، أقوى من شعار: “أنا موجود أيضاً.. ولي حصتي من الإنسانية.. مهما كلّف ذلك من عصيان”. الحرية هي هواؤنا الذي نتنفسه. وحيث تصير الحرية مطلباً. تعلن الحروب المختلفة لسحق كل أمل.
جان جاك روسو كان على حق: “لا توجد ديموقراطية حقيقية على الإطلاق، ولن توجد على الإطلاق. أن يكون العدد الأكبر حاكماً للأصغر، أمر يناقض النظام الطبيعي”. النظام الطبيعي: “الأقوى دائماً على حق”.
الأقوى هو المتمتع بحق العدوان، من دون استئذان أحد. “إسرائيل”، تتكئ على قواعد سياسية صلبة جداً. أقدمت على ارتكابات باهظة. لم تخجل من توحشها وهمجيتها. وقف عالم كبير ضد حربها. عبث. والسبب: الظلامة التي تعرّض لها اليهود في أوروبا الكاثوليكية والبروتستانتية. وهذا ما لم يحصل في الحضارة العربية التي احتضنت إلى جانب الإسلام كل الديانات السابقة وتعاملت معها بإرث حضاري سحيق.
ما امتازت به “إسرائيل” وتميزت به، أنها قدّمت نفسها ذبيحة إنسانية على مر التاريخ. لماذا؟ الأسباب كثيرة. أبرزها الاضطهاد الغربي “المسيحي” لليهود. اليهود، ما كانوا أزمة عربية. إنما، اليهود في الغرب، كانوا في أزمة مستدامة، الاضطهاد الأوروبي للأجناس، أورث الكرة الأرضية، حروباً لا دينية باسم الدين، من أجل المزيد من السيطرة والنهب، ثم يحدثونك عن حضارة الغرب.
عيب. عيب. عيب.
الغرب بلا أخلاق. هكذا كان، وهكذا لا يزال. إنما هذه المرة، بلغت الجريمة “الإسرائيلية” في فلسطين حداً لا إنسانياً مرعباً. شباب وشابات وعقلاء إنسانيون، بالملايين، ذهلوا من حجم الارتكابات. من مشاريع الإبادة، من دفن فلسطين حية.
والتقى العالم، ربما للمرة الأولى في التاريخ، على تحدي الطاغوت العالمي الرأسمالي اللاأخلاقي. واللافت للانتباه أن الشارع العربي تغيّب عن المشاركة، ولو بالإشارة، أو الكوفية، أو النشيد. العلّة ليست في طبيعة وفكر وثقافة الجيل الجديد، بل لأن خوف أنظمة البؤس الفاخرة جداً، والثرية كثيراً، شهر سيف الصمت وأعلن الغربة عن الحدث. ممالك وإمارات الخليج، أنظمة العار العربي، اخترعت لنفسها كوكباً أرضياً تحتمي به. الجيوش العربية ليست ملجومة بقرار. إنها الوريث الشرعي للاستبداد العربي.. “ولو.. ولا مظاهرة، ولا موقف.. ولا..”!
“يا أمة ضحكت من جبنها الأمم”
الفضاء تم احتلاله، الشاشات طردت من يخالف “رأسمالها المالي والسياسي والاجتياحي”. الشاشات تكذب بفجور، من دون أن تشعر بوخز ضمير. هي مع “إسرائيل” من البابوج إلى الطربوش.. و”يا جبل ما يهزك ريح”.
يحاول بعض المتذاكين تنسيب الجريمة إلى الضحية: “الحق على حماس”. “طوفان الأقصى ذهب بعيداً”. “ارتكب مجزرة”.. هذا كذب. عمر الظلم عندنا، منذ قرن وأكثر. قبلها، كنا محكومين من غرب يستلذ طعم دمنا.
كم كنا أغبياء.
قالوا لنا قلّدوا هذا الغرب. حرية، ديموقراطية، إنسانية حقوق إنسان إلى آخر ترهات الجبن الثقافي والعداء الدائم للأخلاق والحقوق والحرية.
أختم بما قاله الروائي ألبرتو مورافيا: “لسوء الحظ أن الأنظمة الرأسمالية، كما الاشتراكية والاستبدادية متشابهة. فالإنسان ليس حراً في أن يتعلم ويكتشف الأشياء بنفسه إلا خلال السنوات الأولى من عمره. أما ما تبقى من عمره، فيخضع لعملية توجيه متلاحقة سواء في البيت أو المدرسة أو المجتمع”، أو بواسطة وسائل الإعلام.
وعليه، لا بد من الفصل المبرم والتام، بين الإعلام والمعرفة. الإعلام حامل نقائض. بحر الإعلام راهناً، يدعو إلى البؤس والاحتقار. الإعلام يكذب 24 ساعة على 24 ساعة. إننا اليوم، في زمن نعيش فيه كثيراً على الإعلام ووسائل البث، وقليلاً من المعرفة. إذاً، الإعلام هو التخريب.
راهناً، نشهد سقوط المثقف. رجل الظل راهناً، هو الرجل المثقف.
غزة، عكست مسار التاريخ والحروب. غزة الصغرى جداً، تواجه بالدم والإرادة، أعتى جيوش العالم. غزة الصغرى، أكبر من الكرة الأرضية. إليها ننتمي وبها نؤمن.
ملاحظة: من الآن فصاعداً، لا بد من إدانة كل من يتوسل أو يسوَّل جائزة “نوبل”.
وحدهم وحوش الحروب، أهل لجائزة، تكافئ المجرمين.
اطمئن أيها الفلسطيني.. أنت الصليب والمصلوب والقيامة. وفلسطين ستشهد فصحها في أقصاها.