أما وقد اطمأن البال الى »الحل المر« للمشكلة العائلية التي هزت لبنان، دولة وحكومة وشعبا، على امتداد أسبوع طويل من الاشتباكات شاركت فيها مختلف ألوان الطيف السياسية، يمينا ويمين اليمين ويمين اليسار ويسار اليمين، واستعرت خلالها الغرائز الطائفية والمذهبية وكادت تشق السلطة على نفسها…
أما وقد صارت »معركة المتن« خلفنا، بعدما نزل الوحي على السلطة بالانسحاب لتنهي تورطا غير مبرر، وبعد تأخير غير مبرر، استهلك الكثير من رصيد الحكم ومن سمعة البلاد ومن اطمئنان الناس الى يومهم والى غدهم (وهو بالأصل مهزوز لأسباب اقتصادية معروفة أبسطها خدمة الدين وأعقدها حجم الدين العام الذي تجاوز خط السلامة)..
أما وقد تم استنقاذ »الديموقراطية« بالأمر، وتم »سحب« السلطة من معركة فرعية سرعان ما تحولت الى مواجهة مفتعلة مع ذاتها ومع خصومها حول »مقعد نيابي« ما كان ليزيد في قوة المعارضة (وهو بالأصل بين مقاعدها المحدودة) أو ينقص من رصيد الحكم لولا السلوك العصبي الذي حكم حركته، خلال الأيام القليلة الماضية، فاهتزت معه المقاعد العليا جميعا..
أما وقد تم تنبه الحكم (ولو متأخرا) الى الظروف المحيطة التي لا تسمح بترف انشغاله بهموم البيت وصراع الأخوة الأعداء.
أما وقد تحقق ذلك كله، بفضل من الله وكرم من »سعاة الخير«، فقد بات ممكنا الالتفات الى بعض الأحداث »التفصيلية« التي طمستها »المحليات«، وأخطرها ما يدبر لفلسطين (وفيها) وللعرب عبرها، وذلك من خلال لقاءات الادارة الأميركية مع زوارها من الملوك والرؤساء والمسؤولين العرب، سواء من وصلها منهم باستدعاء أو من جاءها بالرجاء، فضلا عن لقاءاتها الاستثنائية في عددها ونتائجها مع رئيس الحكومة ارييل شارون الذي في كل زيارة جديدة »يفاجأ« بحصيلة ممتازة من التنازلات العربية والفلسطينية ضمنا تجعله يتمسك بأقصى مواقفه تطرفا وتتعاظم قدرته على إقناع الرئيس الأميركي بأنهما معا في مواجهة »الإرهاب«، وأن »الإرهاب العربي يُضرب ولا يُفاوض«، تماما مثل »طالبان« و»القاعدة«، وأن »المعتدلين العرب« معهما في المعركة ضد هؤلاء »الأعداء المشتركين«.
ومن مراجعة سريعة لنتائج اللقاءات العربية المتوالية مع الإدارة الأميركية يتبين ان فكرة »الدولة الفلسطينية«، التي طرحت مرة، قد ازدادت غموضاً وبُعداً، وأن الموقف من »السلطة الفلسطينية« قد بات أكثر عدائية، وأن المطالب الأولية بانسحاب القوات الإسرائيلية الى مواقعها في أيلول 2000 لم تعد واردة، وأن المسؤولية عن كل ما جرى قد أُلقيت على كاهل هذه »السلطة« التي اكتشفت واشنطن، فجأة، انها »فاسدة« و»غير ديموقراطية« وبلا مؤسسات، وأن القرار في يد رجل واحد فقط عاجز عن »وقف الإرهاب« أو »محرض على ممارسته«، وبالتالي فهو لا يصلح لأن يكون شريكا لرجل السلام النموذجي أرييل شارون.
لقد انتقل النظام العربي ومن ضمنه السلطة الفلسطينية من المزايدة المطلقة في مسألة حل القضية الفلسطينية الى المناقصة المفتوحة: كل يتنازل بحسب حاجته لاسترضاء الرئيس الأميركي جورج بوش، ومن خلفه أرييل شارون.
وبعد كل زيارة لمسؤول عربي الى واشنطن كان سقف المطالب العربية يزداد انخفاضا، بوتيرة متناقضة تماما مع حجم الشراسة الدموية الإسرائيلية تدميراً وتخريباً وقتلاً، وحجم التضحيات والبطولات الأسطورية لشعب فلسطين وهو يحاول حفظ حقه في أرضه بدمه وبروحه الاستشهادية.
مع زيارة ولي العهد السعودي شكلت »المبادرة العربية« سقفاً علنياً، وإن كانت المباحثات الفعلية قد دارت تحته… فالأمير عبد الله كان يملك ما يعطيه عبر الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل، في السياسة، أما النفط فأمره هيّن… وأخطر ما عرضه هو »التطبيع الكامل مقابل الانسحاب الى حدود حزيران 1967، (مع الاستعداد للتفاوض حولها)..
أما النظام المصري الذي سبق الى هذا كله وأكثر منه فلم يعد يملك ما يعطيه، ولا هو يملك التراجع عما التزم به، بدءاً من »الزيارة« 1977، خصوصا وان التراجع قد يعني الحرب (مع أميركا قبل إسرائيل، حسب تقديره) وهو لا يريدها ولن يقبل أن تفرض عليه..
ويمكن الاستنتاج، ببساطة، ان النظام المغربي قد كرر استعداده لدور »الوسيط« مفترضاً انه بذلك قد يساعد على انقاذ ما تبقى من »السلطة« بافتراض انها فلسطين«.
واما النظام الاردني المحكوم بالمشي فوق حد السيف فأكثر ما يهمه الا يترك بصماته على اي حل مقترح، حتى اذا ما قبلته
»السلطة« بذريعة انها »لوحدها« بادر الى تأكيد وقوفه معها في القبول.
بالمقابل فان رئيس السلطة الفلسطينية يتابع السلوك ذاته الذي يعرفه عنه كل الناس: يرفع الشعار ويسلك مسلكاً مغايراً له، فاذا به يباشر »الاصلاح السياسي« بتبديل مواقع بعض »الوزراء«، بعد انقاص عديدهم من ثلاثين الى 21 (مع تأمين مواقع بديلة لمن اخرجوا)، ويعين وزيراً للداخلية لم يمارس الإِمرة حتى عندما كان قائداً عسكرياً في عز شبابه وقوته، ويبقي على وزارة السياحة، ويؤخر تعيين وزير الاوقاف للمناورة مع بعض »الاسلاميين«؟!
***
مع هذه التطورات الخطيرة التي تعصف بمستقبل فلسطين، بل والارض العربية، وفي ظل هذه التنازلات المطردة امام الادارة الاميركية التي تكاد تكون اكثر مما كانت في تاريخها متطابقة مع نهج ارييل شارون والتطرف الاسرائيلي، يستذكر المواطن العربي مواقف الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد.
في ذكرى غيابه الثانية يفتقد الناس حافظ الاسد الذي لم يذهب مرة الى واشنطن، والذي جاء الى لقائه في جنيف ثلاثة من الرؤساء الاميركيين، والذي ظل يرفض التنازل عما لا يجوز التنازل عنه حتى الرمق الاخير.
وسوريا ما تزال على موقفها ومعها لبنان، برغم كل الضغوطات وتشديد الحصار.
وشعب فلسطين قد تعاظمت قدرته على الصمود بعدما كسر حاجز الخوف وها هو يواصل المواجهة ببسالة نادرة آملا ان يكسر الطوق من حوله بدمه.