منذ اليوم الأول لإقامة الأمم المتحدة كان واضحاً أن جمعيتها العامة تظاهرة مفتوحة للشعوب، في حين أن القرارات الخاصة بمصائر هذه الشعوب موقوفة حصراً على مجلس الأمن الدولي بالأعضاء الدائمين فيه ممن يمثلون الدول الأقوى والتي تملك حق النقض (الفيتو)، وهي هي الدول التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية.
ولعل إقامة “الدولة الإسرائيلية” بقرار خاص واستثنائي من مجلس الأمن الدولي، بالقوى العظمى ذات العضوية الدائمة فيه، تشهد على ثانوية دور الجمعية العامة، إذ إنها لم تكن تملك ولا هي تملك الآن حق الاعتراض…
ولقد قصرت التغريبة الفلسطينية عن تحقيق هدفها في الحصول على الاعتراف الدولي بحق الشعب العربي الفلسطيني بدولة له على بعض أرضه، بعد التسليم بوجود الكيان الإسرائيلي الذي استولى على كامل الأرض ثم تنازل عن جزء منها “لسلطة” غير قابلة للحياة، … وهي فشلت لأن الاحتلال يمسك بأمنها واقتصادها وأسباب تواصلها مع العالم، يتحكم “برعاياها” في معاشهم وحركتهم دخولاً وخروجاً، بل ويلاحقهم حتى في مخيمات لجوئهم داخل وطنهم التي يعيش فيها نسبة مهمة من عائلاتهم.
ولقد تطلب الاعتراف الإسرائيلي بهذا “الكيان” الفلسطيني، غير القابل للحياة، تنازلات خطيرة ذهبت بمقومات مشروع “الدولة” وجعلت من “السلطة” مجرد جهاز إداري بوليسي يتحمل عن الاحتلال عبء المواجهة مع مطالب الناس، ويواجههم بشرطتها التي تقوم بأعمال القمع نيابة عن المحتل الإسرائيلي ولحسابه.
أما اعتراف دول العالم بهذا الكيان فدونه الأهوال. ومع التقدير للمواقف التي اتخذتها بعض دول أوروبا مؤخراً في اتجاه الاعتراف بدولة فلسطين، فإن تحويل هذا الاعتراف المعنوي إلى قرار سياسي تترتب عليه نتائج مؤثرة ما يزال بحاجة إلى توفر شروط موضوعية عديدة لا يمكن توفيرها في المدى المنظور.
في حالة إسرائيل، كانت الدول العظمى شرقاً وغرباً قد جهزت “جيش الاحتلال” ومكنته من السيطرة على مساحات واسعة من أرض فلسطين، مستخدماً المذابح الجماعية الجماعية لتهجير الناس وجرف القرى ومسح آثارها ليسهل عليه الادعاء أنه انما يوطن مهاجرين أجلاهم النازيون عن المدن والبلدات التي كانوا مواطنين فيها، سواء في ألمانيا أو في بعض دول شرق أوروبا… وكأنه الصليب الأحمر او وكالة الغوث الدولية، متجاهلاً أن شعباً بكامله قد اقتلع وسيقتلع من أرضه تمهيداً لأن تُعطى لمواطنين من دول أخرى لا علاقة له بظلامتهم ولم يكن متسبباً في تهجيرهم.
كان ضرورياً إضفاء مسحة من التعاطف الإنساني مع ضحايا النازية في الغرب الأوروبي لطمس الجريمة ضد الإنسانية التي ارتكبت فوق أرض فلسطين، والتي شاركت فيها الدول العظمى ـ صاحبة المقاعد الدائمة في مجلس الأمن الدولي ـ وهي التي أضفت “شرعية دولية” على قرار إقامة إسرائيل بالقوة فوق أرض فلسطين وعلى حساب شعبها الذي شردته العصابات الصهيونية وقتلت عشرات الآلاف من أبنائه رجالاً ونساء وأطفالاً، وهدمت العديد من بلداته وقراه واقتلعت زيتونه وأشجار البرتقال فيه واصص الزهور والورد على الشرفات.
أي أن الدول التي اغتالت بسلاحها فلسطين وشردت شعبها هي هي التي صوتت على قيام دولة إسرائيل واعترفت بها، لتسجل سابقة خطيرة في بابها: فإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي أقيمت على أرض لم تكن ملكاً لمن صُيِّر شعبها، والتي أقيمت بقرار دولي، من فوق رأس الشرعية والقانون الدوليين وحقوق الإنسان إلخ.
***
ستمضي سنون طويلة على هذه الفضيحة الدولية التي تخللتها حروب إسرائيلية أخرى، أولاها بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا في العام 1956 ضد مصر جمال عبد الناصر وقراره بتحرير مصر من الاحتلال سياسياً واقتصادياً فضلاً عن الاستقلال السياسي.. أما الثانية فكانت ضد مصر وسوريا في العام 1967 استكملت فيها إسرائيل احتلال كامل الأرض الفلسطينية، وأضافت إليها شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية وبعض الأرض اللبنانية..
وبعد مداولات مطولة ومناورات دولية معقدة خرج مجلس الأمن بقرار ملتبس (242) يطالب إسرائيل بالانسحاب من بعض ما احتلته من أراض، متجاهلاً تماما الموضوع الفلسطيني. كان القرار تثبيتاً وتكريساً لإسرائيل كدولة حاكمة في الإقليم.
بعد ذلك ستتقدم “الثورة” لتمسك بمقاليد منظمة التحرير الفلسطينية وتباشر جهدها لمحاولة تأمين الاعتراف الدولي بالحقوق الفلسطينية..
ولسوف تنشب حرب 1973 التي أجهضت دون أهدافها، وسيقفز الرئيس المصري أنور السادات في رحلة إلى الكنيست الإسرائيلي في القدس المحتلة سوف تنتهي بمعاهدة صلح مع العدو الإسرائيلي… وسيكون على قضية فلسطين أن تنتظر الحرب الدولية على عراق صدام حسين لإخراجه من الكويت لتكون بعض ثماره مؤتمر مدريد.
لم تحظ فلسطين بتمثيل مباشر في مؤتمر مدريد، وإنما تم إشراك عضو فلسطيني في الوفد الأردني… ولعل هذا الوضع بين أسباب أخرى كثيرة هو ما دفع ياسر عرفات إلى المضي قدماً في اللقاءات السرية التي كانت تتم في أوسلو بقيادة محمود عباس حتى تم إنجاز اتفاق أوسلو الشهير، الذي يعطي الفلسطينيين بعض الحق في بعض أرضهم.. مما سمح بدخول قيادة منظمة التحرير إلى الداخل، حيث اتخذت من رام الله عاصمة بديلة من القدس التي حُرِّم على المنظمة أن يكون لها فيها أي وجود رسمي، في حين تحول “المقاتلون” الذين عادوا من الخارج البعيد إلى رجال شرطة في مواجهة شعبهم تحت الاحتلال.
***
بعد أربعين سنة من استيلاد مجلس الأمن دولة إسرائيل، بقرار منه، ذهبت السلطة الفلسطينية إلى مجلس الأمن، عبر المندوب العربي الوحيد فيه، وهو ممثل الأردن، لتطلب انهاء الاحتلال الإسرائيلي في أراضي “الدولة الفلسطينية” العتيدة والاعتراف بها كدولة مستقلة. ومن أسف، فقد لاقت هذه المحاولة الفشل نتيجة الرفض الأميركي المطلق المعزز برفض دول الغرب، ولم تحظَ بأكثر من سبعة أصوات… وكان ذلك مؤكداً بأي حساب.
ولسوف تتكرر المحاولات التي قد تتطلب المزيد من التعديلات في صيغة مشروع القرار، لينتهي بالنتيجة إلى الفشل، خصوصاً وان الدول العربية مفككة، متباعدة، يعاني بعضها من مخاطر مصيرية تهدد وجود “الدولة” فيها، بينما تعيش دول أخرى هاجس التنظيمات الأصولية، أمثال “داعش” و “النصرة” وسائر تفرعات “القاعدة”… هذا فضلاً عن ارتفاع أصوات الداعين إلى إنهاء الحكم المركزي في أكثر من دولة. ففي العراق ترتفع الأصوات بالدعوة إلى الفيدرالية، بحيث تكون للسنة “أقاليمهم” وللشيعة “أقاليمهم”، على مثال الإقليم الكردي في الشمال العراقي، كردستان العراق… أما سوريا فثمة مشاريع عديدة تعدها “الدول” لمرحلة ما بعد الحرب فيها وعليها، والتي لا يعرف أحد متى تنتهي وكيف، وهل تبقى بعدها دولة واحدة أم تنفرط هذه الدولة المركزية لحساب “أقاليم” تجمعها “كونفيدرالية”، أم تنجح المؤامرات لتقسيمها دولاً شتى، على أساس عنصري ـ طائفي أو على قاعدة طائفية ـ مذهبية، فيكون للأكراد، مثلاً إقليمهم، على غرار كردستان العراق، ويكون للعرب العاربة إقليمهم، ويكون للدروز “كيان” ما، وكذلك “للعلويين” الخ… وربما تنجح تركيا في فرض إقليم مميز عاصمته حلب ينضوي تحت رعايتها، ويبقى للحكم المركزي إلى جانب العاصمة دمشق الخط الواصل بينها وبين الساحل “العلوي” بعد الاطمئنان إلى موقع حمص مستقبلاً فيه؟!
***
في مثل هذه الأيام من العام 1974، وقف القائد الراحل ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأول مرة، كممثل لشعب فلسطين، قائد للثورة ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الوطني الفلسطيني، ليلقي خطابه التاريخي عارضاً مشروعاً لتسوية تاريخية مع الإسرائيليين ختمه بشعار صكه الشاعر الكبير محمود درويش: الحرب تندلع من فلسطين، والسلام يبدأ من فلسطين..
يومها قدم عرفات، رسميا، عرضاً متكاملاً لإمكان قيام دولتين على أرض فلسطين: دولة لأهلها الذين كانوا أهلها على مر التاريخ، ودولة لمن كانوا (ونسبة كبيرة منهم ما زالوا) يهوداً يعيشون حياة طبيعية في بعض دول أوروبا وأميركا وأنحاء شتى من العالم ويحملون جنسيتها، فصُيِّروا إسرائيليين وجاؤوا فلسطين غزاة مقاتلين وقد نالوا تدريباً عالياً في “جيوش الحلفاء” خلال الحرب العالمية الثانية أو في دورات خاصة نظمتها لهم دول شتى: بريطانيا وفرنسا، وبعض دول المعسكر الاشتراكي (آنذاك)…
لم تستجب “الدول” لنداء عرفات، برغم كل الجهود التي بذلها مسانَداً من دول عربية أساسية. ولسوف تمر سنوات طويلة، قبل أن يتقدم عرفات خطوة فيعلن أمام المجلس الوطني الاستثنائي الذي انعقد في الجزائر خريف العام 1988 “قيام دولة فلسطين” تمهيداً للانطلاق في جولة دولية واسعة استهلها بالدول الصديقة: الصين، الهند، بعض دول أميركا اللاتينية ومعظم دول افريقيا، ليطلب اعترافها “بالدولة” الوليدة.
ولقد أفادت بعض الدول الصديقة من هذه المناسبة لفتح مجالات التعاون مع إسرائيل مقابل الاعتراف بالدولة الفلسطينية: “أنتم تعرفون أن إسرائيل متقدمة جداً في بعض الصناعات الدقيقة، لا سيما في مجال الري بالنقط وكذلك في أجهزة الكومبيوتر ثم أن لديها أسلحة ذات دقة عالية… ونحن بحاجة إلى ذلك كله… ونشكر للقائد عرفات أنه أتاح لنا الفرصة لفتح باب التعاون مع إسرائيل التي كنا لا نتعامل معها رسمياً بسبب من تعاطفنا مع قضية الشعب الفلسطيني. والشكر أننا أفدنا عملياً من العلاقة مع إسرائيل من دون أن نتخلى عن موقفنا المبدئي تجاه حق الشعب الفلسطيني في دولة له، إلى جانب إسرائيل، على الأرض ذاتها”.
***
لن يفيد اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي إلا في تذكير العالم بهذه القضية التي يعتبرها أهلها مقدسة، ويتعاطف معهم معظم شعوب الأرض، لكن هذا التعاطف لا يتحول إلى قرار داعم وملزم بمساندة الشعب الفلسطيني في الوصول إلى حقه في بعض البعض من أرضه.
كذلك فإن اللجوء إلى بعض المؤسسات الدولية (المحكمة الدولية مثلاً)، قد يثير غضب إسرائيل، وقد يزيد من الدعم المعنوي لهذا الشعب الذي ما زال يُقتل مواطنوه كل يوم، وتعجز “سلطته الوطنية” عن ردع إسرائيل، برغم تلبيتها لمعظم اشتراطاتها وتجاوزاتها الأمنية، فضلاً عن حصارها الشديد على “السلطة”… هذا إذا ما قفزنا من فوق حروبها المتكررة على شعب فلسطين في غزة، وآخرها تلك التي شنتها في أواخر الصيف الماضي والتي دمرت معظم ما أعيد بناؤه في الحروب الثلاث السابقة على هذا “القطاع” وأزهقت أرواح أكثر من ألفي شهيد نصفهم من الأطفال، فضلاً عن إصابة أكثر من عشرة آلاف من الرجال والنساء والأطفال بجروح بعضها لا يندمل.
***
مفهوم أن الوضع العربي الراهن لا يساعد، بل انه يشكل عبئاً ثقيلاً على القضية.. فالدول العربية الأساسية مشغولة عن فلسطين بمشكلاتها الدموية، التي تكاد تصل إلى حافة الحرب الأهلية وتهدد بعض كياناتها بالتمزق أو بإعادة صياغة باللامركزية أو بالفيدرالية وهي تحتاج إلى من يساعدها.. ولشدة حاجتها فهي تلجأ إلى مصدر النكبة في فلسطين: أي إلى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وصولاً إلى أوستراليا التي بعثت بطيرانها الحربي، مع سائر “الحلفاء” “لتحرير” العراق وسوريا من عصابات “داعش” و “النصرة”.
لقد كانت الدول العربية، رسمياً على الأقل، وضمن قدراتها المحدودة دائماً، تشكل حماية ورافعة للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وبوسعها أن تضغط بقوتها الوازنة من أجل حق شعب فلسطين في بعض البعض من أرضه.
أما اليوم، فإن بعض أهم الدول العربية الفاعلة مشغول بهمومه الدموية الثقيلة… ومثل هذا الوضع سيشكل عبئا إضافياً، على “القضية المقدسة”.
وهذه آخر العمليات الإرهابية في قلب باريس والتي استهدفت صحيفة كاريكاتورية تسيء إلى العرب فتحولهم من ضحايا إلى جلادين، بينما هم يخسرون بلادهم وحقهم في مستقبل أفضل.
لم تعد لدى العرب قضية واحدة… صارت لكل دولة “قضية” بذاتها، وللعالم مشاغل أخرى ليس بينها المستقبل العربي الذي ضاع عنه أهله.