طلال سلمان

فلسطين اسرائيل عودة الى 1948

هتف إدوار سعيد وهو يختتم عرضه الشيق عن »حال فلسطين اليوم«، وهو العائد مباشرة »من البلاد«:
بعيداً عن التفاصيل، وهي كثيرة، يمكن القول بكثير من الثقة، إننا عدنا أو نحن في طريق العودة إلى نقطة البداية. لكأننا في العام 1948 مع فارق نوعي وأساسي: أن الفلسطينيين لن يرحلوا هذه المرة. لقد تعلموا من الماضي، وهم لن يكرروا التجربة المرة. إنهم متوحدون مع أرضهم، لن يستطيع الإرهاب الإسرائيلي، مهما بالغ في عنفه، أن يقتلعهم أو يجبرهم على الخروج هائمين على وجوههم في اتجاه المنافي التي قد تقبلهم وقد لا تقبلهم.
كنا مجموعة من المشاركين في أعمال المؤتمر العام الثامن عشر »للجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز«، وبالذات في ندوتها المتعددة الأصوات التي انعقدت بعنوان »العلاقات العربية الأميركية: آفاق واحتمالات«، في ضاحية »كريستال« التي لا يفصلها عن واشنطن إلا نهر »بوتوماك«… وكان النقاش يدور حول مستقبل الانتفاضة في ظل الضغوط الأميركية والدولية لوقف إطلاق النار، في غياب أي أفق لمعاودة المفاوضات السياسية في اتجاه تلبية الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية المشروعة والمثبتة بالقرارات الدولية.
وكنا نتحلق حول هذا الأكاديمي الفلسطيني المتميز بنتاجه الثقافي الرفيع المستوى في إحدى صالات الفندق، نستمع إلى مزيج مثير من المشاهدات والانطباعات والتقديرات التي عاد بها الأديب المقدسي المولد المصري النشأة اللبناني الهوى الأميركي الجنسية من رحلته الأخيرة المجللة بالحزن للمشاركة في وداع صديق العمر والمناضل بصمت الدكتور إبراهيم أبو لغد… وقال إدوار سعيد:
لن تصدقوا ما حدث… ولكن يافا عادت، في وداع »إبراهيم« مدينة فلسطينية خالصة: رايات فلسطين فوق كل السطوح وعلى كل الشرفات وفي أيادي المشيعين وعلى صدور أطفالهم، والناس، نساءً ورجالاً وفتية، في »شوارعهم«، يتحركون في »مدينتهم« وكأنها قد تحررت واستعادت هويتها الفلسطينية. اختفى الإسرائيليون تماماً وتركوا المدينة لأهلها ولو لساعات..
انتقل النقاش إلى »السياسة« واحتمالات المستقبل.
قال إدوار سعيد بحزم: لا خطر على الانتفاضة. لسوف تستمر. قد يتم تعديل في الأسلوب، ولكنها مستمرة. لقد كسر الفلسطينيون حاجز الخوف ولن يعودوا إلى بيوتهم بجثث ضحاياهم ثم يستكينوا إلى عجزهم في مواجهة القوة القاهرة.
قال واحد منا: لعل الفلسطينيين يتقدمون على »الطريق اللبنانية« الآن. لقد أسقطوا، بدمائهم، هالة الجيش الذي لا يُقهر. لقد واجهوه، كما اللبنانيون، في الشوارع وفي الطرقات وأمام بيوتهم وأحيانا في محيط ثكناته، واكتشفوا أنهم يقدرون.
أضاف أستاذ زائر في جامعة بيرزيت: سقط جدار الخوف فعلاً. ماذا بعد الدبابات والمجنزرات والمدمرات في البحر والطائرات الحربية الأميركية من طراز أف 16 تقصف البيوت والسجون والطرقات؟! لقد أنزلت إسرائيل ترسانتها الحربية كلها، تقريباً، في مواجهة أطفال الانتفاضة.
عاد إدوار سعيد يقول بحماسته الفائقة:
لقد باتت الانتفاضة نمط حياة، إذا صحّ الوصف. بين الساعة الثانية والساعة الثالثة يخرج التلامذة من مدارسهم التي لم ينقطعوا عنها، إلى الشوارع رأساً، وبالتحديد إلى مفارق الطرق حيث تقوم حواجز الجيش الإسرائيلي، فيباشرون مهامهم اليومية: رشقها بالحجارة، ومحاولة »تصيّد« الجنود »المكشوفين«، ويسخرون منهم وهم يرونهم يهرولون إلى سياراتهم المصفحة خائفين!
وماذا عن الأوضاع المعيشية؟! ماذا عن الصعوبات التي يعاني منها الفلسطينيون؟
قال إدوار سعيد: لم أذهب إلى غزة، ولكنني جلت في مختلف أنحاء الضفة، كما في العديد من جهات »فلسطين 1948«، ويمكنني القول إن الوضع العام أفضل اليوم عما كان عليه قبل ثلاثة أو أربعة شهور. إن المساعدات في تزايد وهي تصل إلى مختلف الأنحاء، والتبرعات الشعبية مؤثرة، فضلاً عن أن بعض المال العربي الرسمي صار يصل بشكل منتظم تقريباً. المستوصفات، سيارات الإسعاف، الأدوية، المعدات الطبية، تفي بالحاجة وتزيد.
قذف أحد المشاركين في النقاش سؤالاً كالقنبلة اليدوية:
وماذا لو نفَّذ الإسرائيليون تهديداتهم بطرد السلطة أو بتفكيكها وتحطيمها؟!
وجاء الجواب واحداً من أربعة أو خمسة مشاركين دفعة واحدة:
هذا تهديد لإسرائيل لا للفلسطينيين. إنها تعرف أنها بحاجة إلى هذه »السلطة«، بكل عيوبها، فبديلها الفوضى المطلقة حيث ينعدم الأمان تماما في »كل« فلسطين، لا فرق بين المحتلة 1948 والمحتلة 1967 والتي »تخضع« للسلطة أو هي في الطريق…
قال الأغنى بمعلوماته في المجموعة:
لقد التقيت بعض كبار رجال الأمم المتحدة في فلسطين، ممن شاركوا في المساعي لوقف إطلاق النار، وسمعت منهم ما يمكن أن يشكل الجواب الدقيق عن هذه التساؤلات.
ووسط انتباهنا جميعاً، سرد الصديق معلوماته. قال:
سمعت أن بعض هؤلاء »الدوليين« طرح السؤال مباشرة على ياسر عرفات: ماذا لو طردك شارون فأعادك مثلاً إلى تونس؟! وقد رد عرفات بغير أن يتلعثم: ستعيدني طائرة فرنسية إلى غزة خلال ساعتين. لن يتحمل »المجتمع الدولي« قراراً إسرائيلياً أحمق بهدم كل ما تحقق حتى الآن، هذا خارج البحث.
وسمعت أن بعض هؤلاء »الدوليين« حاول أن يناقش شارون حول احتمالات المستقبل فوجده مشغولاً بنفسه وبمصيره، وليس لديه ما يعرضه. إنه يتصرف وكأن الانتفاضة مؤامرة على إسرائيل عموماً وعليه شخصياً خاصة. وهو يحاول التأكيد لكل من يلتقيه من الأجانب أنه ليس ضعيفاً ليخضع »لشروط عرفات«، وأنه ليس إيهود باراك لكي يتردد أو لكي يعرض ما لا يملك أن يعطيه.
عاد إدوار سعيد بالحديث إلى منطلقه »الفكري« قال:
هو ذاك. لقد عدنا إلى نقطة البداية، إلى العام 1948. على الأرض تتم المواجهة، ومباشرة، بين فلسطين وإسرائيل. لكأنما استؤنف الصراع من حيث أوقفته الهزيمة قبل ثلاث وخمسين سنة. وأود هنا أن أوجه تحية خاصة إلى المناضل الشجاع عزمي بشارة، الذي يؤكد بتجربته الناضجة صحة هذا الاستنتاج.
هدأ قليلاً من اندفاعه الحماسي ثم عاد يوضح فكرته، قال:
صدقوني، إن فلسطين، اليوم، أسلم حالاً من إسرائيل التي بدأت تعاني أزمة مصيرية. الفلسطيني على أرضه، وهو يقاوم ويناضل من أجل حقه فيها، أما لدى هذه الأشتات من الإسرائيليين فإن الأمر مختلف. ليس الإيمان عميقاً بأنها أرضهم، وكثير منهم جاؤوها عابرين وباعتبارها بوابة أميركا، وإذا صار الخيار بين الموت من أجلها أو الرحيل فلعل نسبة مؤثرة منهم ستختار الرحيل، أما الفلسطيني فلا مكان له إلا في فلسطينه.
لعلنا، هذه المرة، ننجح في تصحيح التاريخ.
وافترقنا على هذا الأمل الذي أطلقته الانتفاضة في فلسطين المعززة بتجربة لبنان المقاوم التي انتهت إلى نصر أكثر من يقدره ويحتاج إليه هو »الشعب« الممزقة أوصاله بين فلسطين والكيان الصهيوني وديار الشتات!

Exit mobile version