بين سوء التوقيت وسوء القصد مسافة واسعة جداً، لكن التوظيف السياسي للالتباس بين الأمرين يمكن أن يجعل النتائج واحدة في مردودها القابل للاستثمار.
وها نحن نعيش فصلاً جديداً من الالتباس بين سوء القصد وسوء التوقيت، يمكن تحميله مسؤولية الجو المتوتر الذي يعيش فيه اللبنانيون.
أمر لا يكاد يصدق، ولكنه حدث: للمرة الثانية خلال أحد عشر شهراً بالتمام يتم التداخل بين حدث داخلي مؤثر (اغتيال الزميل الشهيد جبران تويني) وبين موضوع المحكمة الدولية فينشأ التباس يسهل استثماره سياسياً بنقل الأمور حول أمور إجرائية داخلية إلى مستوى آخر يطال قضية استشهاد الرئيس رفيق الحريري بكل أبعادها الخطيرة، محلياً وعربياً ودولياً.
ولقد أدى ذلك التداخل بالالتباس الذي نشأ عنه إلى خروج الوزراء الخمسة الذين يمثلون التحالف الشيعي من جلسة لمجلس الوزراء فاجأهم فيها طرح مسألة المحكمة الدولية، بعد التوافق على المبدأ وقبل الاتفاق على صيغتها.
وقبل يومين، السبت في 11/11/,2006 وعبر الاستقالة التي تقدم بها وزراء هذا التحالف الشيعي اعتراضاً على رفض مطالبتهم بتوسيع الحكومة أو تعديلها بحيث تحقق مطلبهم في أن تتسع للقوى جميعاً، ولا سيما لحليفهم التيار الوطني الحر ، فتبدى وكأن استقالتهم تأتي اعتراضاً على المحكمة الدولية التي بالكاد وصلت النسخة الثالثة أو الرابعة لأصول قيامها وتحديد مهماتها، إلى رئيس الحكومة، فارتأى بتها على الفور، في جلسة استثنائية لمجلس الوزراء… وهكذا نشأ الالتباس الثاني إذ افترض التحالف الشيعي أن المحكمة الدولية تطرح لتمييع مطلبه، ليس إلا، فكان قراره باستقالة وزرائه. ولم يكن لأساس الاعتراض أية علاقة بالمحكمة لا من قريب ولا من بعيد، ولكن التوقيت يستولد الالتباس الذي يأخذ إلى سوء النية وسوء التفسير ويفتح باب الاستثمار السياسي لجريمة اغتيال الرئيس الشهيد، مرة أخرى، على مصراعيه.
وسوء التفسير كسوء القصد في مسألة على هذا القدر من الأهمية ومن الحساسية في لحظة متوترة كالتي نعيش… ولعل هذا ما يدفع إلى إعادة التذكير بمجموعة من المنطلقات المبدئية بينها:
1 ليس في لبنان كله مواطن واحد بعقل سوي ولأي طائفة انتمى يمكن أن يعترض على السير في التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري حتى النهاية، ومحاكمة المخططين والمتورطين والمنفذين أمام أية محكمة تستهدف إقامة العدل، ليس فقط لكي ينال هؤلاء جزاءهم العادل، بل لكي يستعيد الناس ثقتهم بوطنهم وثقتهم ببعضهم البعض، بمعزل عن خلافاتهم السياسية التي يمكن (ويجب) أن تبقى ضمن الإطار الطبيعي للمواقف أو المصالح المتعارضة في ظل نظام ديموقراطي ولو بالتوافق.
حتى من ناقش فكرة المحكمة الدولية كانت تحكمه، بداية، شكوكه وتحفظاته على الدور الأجنبي في قضية وطنية على هذه الدرجة من الخطورة، ومن منطلق أن الحريري شهيد جميع اللبنانيين، شهيد الوطن، شهيد العرب، وأن أهله هم المتضررون من اغتياله، وبالتالي فهم الأولى لو أن ظروف دولتهم وقضائهم طبيعية بمحاسبة الجناة دفعاً لتهمة شنيعة مثل التواطؤ على هدر دمه أو السكوت عن مرتكبي هذه الجريمة الشنيعة، والتي شكّلت نقطة تحول سياسية خطيرة في تاريخ لبنان (والمنطقة؟).
2 بالنتيجة أسقط الكل تحفظاتهم عن مبدأ المحكمة الدولية وإن بقي مطلب التدقيق بالنصوص، وعدم استخدام السابقة كيفياً ومن طرف الأقوى دولياً، لتحقيق أغراض ومصالح كان يناهضها رفيق الحريري نفسه.. وبالتالي فلا بد من جهد لمنع المحكمة من أن تكون أداة محاسبة لخصوم تلك الأغراض الدولية بمن فيهم الرئيس الشهيد ذاته.
ومثلما كان يمكن أن يمر التوافق على المبدأ بهدوء وبالإجماع، كان يمكن أيضاً أن تناقش مسودة المحكمة الدولية بهدوء وبمسؤولية وطنية وأن تقر بالإجماع، وهذا أكرم لشعب لبنان جميعاً ولقياداته السياسية على اختلاف تلاوينها، وأكرم على وجه التحديد لرفيق الحريري باعتباره شهيد لبنان واللبنانيين (بل والعرب) جميعاً.
3 لنتفق، أيضاً، أن لا أحد باستطاعته، بعد، تعطيل المحكمة الدولية أو منع تشكيلها.. فالقرار بإنشائها اتخذ على أعلى مستوى دولي، وبموافقة مختلف الأطراف المعنية.
ومن ثم فليس من منتصر ومهزوم في هذه المعركة التي لا مبرر لها، ما دام القرار قد اتخذ فعلاً، ولا أحد يريد تعطيله، فضلاً عن أنه لا يقدر على تعطيله.
4 ولنتفق أيضاً أن المحاكمة قضية وطنية وليست طائفية أو مذهبية، خصوصاً أن اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية أو السياسية يعتبرون رفيق الحريري شهيدهم وشهيد الوطن… والمحاكمة للمشتبه به والحكم على المدان. ولم يرتكب أحد هذه الجريمة البشعة بدافع التعصب لطائفة أو لمذهب… فرفيق الحريري كان كأي شخصية عامة يجتمع على تأييدها (أو معارضتها) الناس على قاعدة سياسية وليس على قاعدة طائفية أو مذهبية.
ورفيق الحريري بالذات كان بشخصيته الاستثنائية وبكفاءاته العديدة قادراً على اختراق الطوائف والمذاهب والأحزاب والتيارات، وكانت له صداقاته الحميمة مع سياسيين ومفكرين وحزبيين من مختلف الاتجاهات والتيارات… ولقد حصل له ما يحصل مع أي شخصية في حجمه: قد ينقلب التحالف في ظرف محدد إلى تعارض أو حتى إلى مخاصمة والعكس صحيح (يمكن الاستشهاد هنا بالعلاقة مع نبيه بري أو وليد جنبلاط أو سليمان فرنجية أو الرئيس الراحل الياس الهراوي أو ميشال المر أو حزب الله ، وبالتحديد أمينه العام السيد حسن نصر الله الذي ربطه به ودّ عميق وتقدير متبادل حتى يومه الأخير… في حين أن كثيرين من المحتشدين تحت راية 14 آذار لم يكونوا لا في خانة الحلفاء ولا في خانة الأصدقاء الشخصيين، بل انه لم يكن يرغب في رؤية بعضهم داخل بيته، دون أن يعني هذا أنهم كانوا بالضرورة خصوماً).
كانت خريطة التحالفات تتبدل، كما يحصل في أي بلد في العالم، خصوصاً بين سياسيين أفراد، لا ينضوون تحت لواء أحزاب عقائدية لها برامجها المحددة ولها معاييرها الصارمة للتحالف، اقتصادياً واجتماعياً ومن ثم سياسياً.
? ? ?
هل يمكن، بعد، فرز الخليط الذي تداخل فيه الماء والحليب؟
هل يمكن، بعد، العودة إلى صوت المنطق والعقل والمصالح في مواجهة بعض التساؤلات التي تطرح، حالياً، لتخلق جواً من التوتر بل الاستفزاز الذي يأخذ إلى تفسيرات لا علاقة لها بأساس الموضوع.. ومنها:
لماذا تمّ الخلط مرة أخرى، بين التعديل الحكومي المطلوب وبين الموافقة على المحكمة الدولية.. ومن الذي طرح المقايضة بداية، ثم جعل الأمرين متلازمين وفي توقيت واحد.
أليس حراماً أن يصوّر استشهاد رفيق الحريري، الذي وحّد بين اللبنانيين جميعاً على اختلاف انتماءاتهم ومعتقداتهم، على أنه سبب للفرقة والتناحر، بل والفتنة والعياذ بالله؟!
ألم يكن ممكناً إقرار التعديل الذي كان قد اتفق عليه (في ما أوحت به بعض الجلسات المغلقة)، ثم تناول موضوع المحكمة الدولية وقد هدأ الجو في البلاد، وهدأت الخواطر بما يمكن من تحقيق الإجماع (المتيسّر) حول قضية وطنية على هذا المستوى من الخطورة؟!
لماذا المزج بين أغراض محلية تتصل بمقاعد وزارية لن تؤثر مهما زاد عددها إلا في توفير مناخ توافقي، وبين قضية يجمع عليها اللبنانيون، وينزلونها في نفوسهم منزلة سامية.
لماذا ومَن هو المتسبّب في خلق هذا الجو الانقسامي المسموم حول الشهيد الذي بكاه اللبنانيون جميعاً، وما زالوا يحملونه في قلوبهم؟!
وهل يمكن، بعد، استنقاذ الشهيد وإعادة قضيته إلى ما تستحق من احترام، بعيداً عن اللعبة السياسية المحلية بالمزايدات والمناقصات فيها.
رفيق الحريري يجمع ولا يفرّق: كان كذلك حياً وهو الآن من موقع شهيد الوطن والأمة عامل توحيد وإلفة وتضامن ومحبة.
فلنحفظ له جميعاً مقامه في قلوبنا، وليكن مرة أخرى عامل توحيد بين اللبنانيين، ولنفد من شهادته لتحصين وحدتنا الوطنية..
أما المحكمة فلها سياقها الذي لن توقفه المزايدات أو المناقصات السياسية.