في كل نقد للعهد الذي نعيش نهاياته، تسبغ »البراءة« على كل من شارك في المسؤولية عنه وفيه، ما عدا شخص واحد فقط لا غير هو الرئيس الياس الهراوي،
صار كأنه »العهد الماضي«، وتحديدا المسؤول عن كل ما يوجه إليه الآن من اتهامات علنية أو ضمنية، يستوي في ذلك الفساد أو الهدر، في الادارة أو في الأموال العامة،
ومما زاد الطين بلة ان الأعلى صوتا في توجيه الانتقادات، وربما الاتهامات، هم ممن شاركوا الرئيس الهراوي المسؤولية، ولعلهم كانوا في مواقع تخولهم صلاحيات منع أو وقف الكثير مما وقع أو ارتكب، ولعل بعضهم قد أفاد من تلك الارتكابات والصفقات والمخالفات الدستورية أو القانونية، إفادة عظيمة ظاهرة للعيان، مهما برع »أبطالها« في تمويهها..
بل لعل بعضهم هو المسؤول الأول، وقبل رئيس الجمهورية، عن بعض وقوعات العهد الماضي، سواء على صعيد »القوانين الملغومة«، أو على صعيد الممارسة المباشرة حكوميا أو نيابيا أو إدارياً.
أبسط شروط العدالة أن تشمل المحاسبة، إذا ما أريد لها أن تتم، أو إذا ما أمكن إجراؤها فعلاً، الجميع: جميع من شارك، ومن موقع المسؤولية، في »العهد الماضي«، سواء أكانت إنجازا لا بد من التنويه به، أو كانت إخفاقا لا بد من المؤاخذة عليه.
فالعهد الماضي لم يكن شخصا، ولا يمكن أن يلخصه فرد ولو من موقع رئيس الجمهورية،
.. خصوصا وأن »رئيس جمهورية الطائف« ليس أمبراطورا، وليس ملكا غير دستوري، ولا تمكنه صلاحياته المحددة دستوريا بأن يقول لأي أمر كن فيكون!
في »العهود الماضية« السابقة كان رئيس الجمهورية هو الآمر الناهي في كل مجال: هو من يتحكّم بقانون الانتخاب وتقسيم الدوائر الانتخابية فيتحكّم بالمرشحين وتكون كلمته هي العليا في من يفوز ومن يفشل، وهو يستطيع أن يقرر من يكلف برئاسة الحكومة لأنه »يملك« أصوات الأكثرية من النواب الذين تعوّدوا »تفويضه«، وهو من يختار موظفي الفئة الأولى (بمشاركة رمزية من النافذين) بدءاً من قائد الجيش الى رئيس مجلس القضاء الأعلى الى النائب العام التمييزي الى مديري الأجهزة الأمنية كافة (المخابرات، الأمن العام، قوى الأمن الداخلي الخ) الى السفراء والمحافظين والقائمقامين والمديرين العامين كافة..
أما في العهد الذي نعيش أيامه الاخيرة فقد عرف لبنان بدعة »الترويكا«، والتي يمكن اعتبارها مجتمعة في موقع رئيس جمهورية الجمهورية الأولى..
و»الترويكا« ولدت مع نهاية السنة الاولى من العهد، واستقالة حكومة الرئيس سليم الحص، وتناوب على عضويتها (مع الرئيس الهراوي) الرؤساء حسين الحسيني وعمر كرامي ونبيه بري ورفيق الحريري.
بعد هذه الملاحظة »التاريخية« لا بد من ان نلفت انظار جميع المعنيين الى ان »العهد الماضي« يشملهم جميعاً، بايجابياته كما بسلبياته،
.. وهو يشمل، تحديداً »الذاهب« و»المستمر«، وربما من »خرج ولم يعد«.
.. وكل دعوة الى المحاسبة لا بد ان تشمل الجميع ولا تحصر فقط بالذي تنتهي ولايته، ولو ممددة، بعد خمسة اسابيع، ويسهل بالتالي تحميله الأخطاء كافة والتجاوزات جميعاً، مع التعهد بالأخذ بمبدأ »عفا الله عما مضى«،
ان كثيراً من المهللين والمصفقين الآن للرئيس المنتخب اميل لحود، والذين يعدون انفسهم بأن يكونوا من رجال »العهد الجديد«، هم من المسؤولين في »العهد الماضي«، ولذا يرمون بكامل المسؤولية على كاهل الرئيس الهراوي، ويصورونه وكأنه كان الحاكم المطق، ويكادون يدعون بأنهم كانوا مغلوبين على امرهم معه، وأنهم حاولوا وقف الخطأ فلم ينجحوا، وعلى هذا فهم لا يتحملون اي قسط من المسؤولية عن »الجرائم« التي ارتكبت او الأخطاء التي باتت الان على كل شفة ولسان.
لا يعني هذا الكلام بأننا ضد اية مراجعة نقدية لتجربة »العهد الماضي«، تسجل عليه اخفاقاته او الارتكابات التي وقعت، كما تسجل له النجاحات والإنجازات التي حققها،
لكننا مع مراجعة شاملة، نزيهة، ومنصفة بين شروطها الا تنحصر بشخص، كونه »الذاهب«، اي الذي لم يعد يملك »حصانة« القوة التي تعطيها مهابة الحكم للحاكم، وألا تنحصر المحاسبة في مجال واحد وتغفل مجالات قد يكون ما ارتكب فيها اعظم خطراً وأفدح ضرراً على صورة الدولة ومؤسساتها، وعلى المواطن في حقوقه السياسية او في رفاه حياته.
وقد يكون ضرورياً ان يبدأ »العهد الجديد« متخففاً من الخصومات والأحقاد والعداوات، لا سيما تلك التي قد تتخذ طابعاً شخصياً او تثير حساسيات طائفية او مذهبية،
لكن الضروري الا يبدو »العهد الجديد« في صورة من يكيل بمكيالين، ويحاسب بمعيارين، وانه يحكم عشوائياً او استنسابياً او مزاجياً على من كان في السلطة قبله.
تكون المحاسبة، او »المراجعة النقدية«، (للتخفيف) شاملة او تغدو ظالمة إذا ما استثنت من »لنا عليه الخاطر«، او من »نريد خاطره علينا غدا«!!
ان »العهد الماضي« يشمل، اضافة الى الرئيس الياس الهراوي ومعه كل من شارك في السلطة على امتداد السنوات التسع السابقات، مدنياً كان أم عسكرياً، في القضاء أو في الادارة، اضافة الى من كانوا، في المجلس النيابي او في الحكومة، رئيساً او وزيراً او نائباً من »نواب لبنان«.
والكل، في نظر الناس، تحت الغربال، لا فوقه: المُتٍّهَم متهِّم، والمفترض نفسه مصلحاً قد يصنفونه مخربا، ومن يقول انه كان قوة الدفع للتغيير يوجهون إليه اصابع الاتهام بأنه هو من »تغير«، فاغتنى بعد فاقة، وتسلط بعد ان كان مظلوماً، وانحرف بعدما كان داعية اصلاح، و»تطأف« بعدما كان من عتاة العلمانيين!
في البلاد موجة نفاق قلّ نظيرها،
وكثير مما يقال الآن في اميل لحود سبق ان قيل في الياس الهراوي يوم القرار بتعديل الدستور لتمديد ولايته ثلاث سنوات اضافية،
وفي هذا النفاق ما يسيء الى العهد الجديد، وليس فيه بالقطع ما يضيف إليه، وهو ليس بحاجة الى اكثر من حقيقته التي استقطبت له هذا التأييد الشعبي الشامل.
وبين جمهرة منافقي العهد الجديد من كانوا من كبار المنتفعين في »العهد الماضي«، وممن احرقوا الكثير من البخور على مذبح الياس الهراوي.
اليوم، وقد بات الرئيس الهراوي على باب الخروج من القصر الجمهوري يهمنا ان نسجل لهذا الرجل ما سيبقى منه للتاريخ،
فالكل يعترف بأنه لولا الياس الهراوي لما امكن اتخاذ تلك القرارات الشجاعة التي أمنت اجراء التحولات الاساسية التي رممت صورة الدولة باعادة بناء مؤسساتها،
وبغض النظر عن الصح والخطأ في مسلكه، فإن الياس الهراوي قد تحمل الكثير مع طائفته ومع مدينته زحلة ومع عائلته الشخصية ومضى يكمل ما التزام به حتى السطر الأخير.
وأبسط شروط الوفاء ان نعترف له، مرة اخرى، بكل هذا، وألا ننسى بعض شركاء الأيام الأصعب، وفي طليعتهم الرئيس سليم الحص، ثم بعد ذلك نباشر حصر الأرباح والخسائر، وبغير ان نسقط اسم اي من الذين شاركوا في الأرباح ويحاولون الآن ان يتهربوا من اداء الحساب عن الخسائر التي تسببوا فيها.
العدل لا يتجزأ، والمسؤولية لا تتجزأ، وأبسط شروط العدالة الشمول!.