اختارت الإدارة الأميركية (الجديدة) «الأفضل» من بين دبلوماسييها المحترفين لفتح باب الكلام مع دمشق، والذي ظل موصداً لسنوات طويلة،
انه جيفري فيلتمان، الذي عرفه اللبنانيون سفيراً لبلاده على امتداد السنوات العجاف التي عاشها هذا الوطن الصغير عند حافة الحرب الأهلية، قبل ان يعود إلى وزارة الخارجية في واشنطن ليجد نفسه في موقع مساعد وزيرة الخارجية، ولو مؤقتاً، وبعد استقالة ديفيد ولش.
على هذا فجيفري فيلتمان قد وصل دمشق آتياً من البعيد البعيد، وفي أعقاب دهر من الحملات السياسية والتصريحات الاتهامية وقرارات الكونغرس بمحاسبة سوريا بقانون خاص واستثنائي كان للبنان موقعه فيه، خصوصاً إذا ما صدقنا مزاعم بعض رجال السياسة اللبنانيين عن مشاركتهم في صياغته وفي تنظيم «اللوبي» اللازم لتمريره كرمى لعيونهم!
وقبل لبنان كان جيفري فيلتمان قد أمضى أكثر من سبع سنوات من حياته الدبلواسية معتمداً لدى إسرائيل في السفارة الأميركية، بداية، مهتماً بالشؤون الاقتصادية لقطاع غزة، ثم كمساعد للسفير الاستثنائي مارتن انديك، وأخيراً في القنصلية الأميركية في القدس المحتلة بين العامين 2001 ـ 2002.
ولقد شاءت التطورات والتحولات في المنطقة ان يكون «جيف» رجل مرحلة «الخصومة» والتي تفجرت بين واشنطن ودمشق، مع الاحتلال الأميركي للعراق في مثل هذه الأيام من عام 2003، والذي عارضته سوريا بعنف، فردت الإدارة الأميركية السابقة بفتح الجبهة في لبنان للهجوم المضاد.
كانت ذروة ذلك الهجوم استصدار القرار الشهير في مجلس الأمن 1559، بداية أيلول 2004، بالشراكة مع فرنسا جاك شيراك، بكل ما استولده من تداعيات بينها إمرار التمديد للرئيس السابق اميل لحود، في اللحظة الأخيرة، والذي كان نهاية لحقبة وبداية لحقبة جديدة سيشهد فيها هذا الوطن الصغير الويلات.
وهكذا فإن وصول جيفري فيلتمان إلى لبنان قد ترافق مع أجواء محمومة فيه، ليست مبالغة بأن توصف بالحرب الأميركية ـ الفرنسية على ما اسمته «الوصاية السورية»… وفي غمار هذه الحرب تفجرت سلسلة من الأزمات السياسية التي سرعان ما تفجرت دموياً باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، مما اضطر القيادة السورية إلى اتخاذ قرارها الصعب بسحب قواتها العسكرية من لبنان في ظروف أقل ما يقال فيها إنها لم تكن لائقة بتاريخ الجيش السوري، ولا بعلاقات الأخوة بين البلدين الشقيقين والتي كان الطموح يريد الاندفاع بها إلى شعار «شعب واحد في دولتين».
من هنا لم يكن مستغرباً ان يخرج جيفري فيلتمان عن طوره، ذات يوم، وأن ينسى موقعه والاصول الدبلوماسية فيرد على الرئيس عمر كرامي (وكان في دست الحكم) قائلاً: «لماذا ترفضون تصرفاتي وتقبلون تدخل عنجر»؟!
لقد رأى نفسه «الوريث» أو «البديل»، بغير ان يحس بأي حرج في دوره الآخر كمحرك أساسي لما أسمي ـ في ما بعد ـ «ثورة الأرز» بكل ما طرحته من شعارات السيادة والحرية والاستقلال و»لبنان أولاً» في سياق الحرب على سوريا، حتى بعد خروجها من لبنان… وهي حرب شملت كل من تصورت الإدارة الأميركية انه حليف أو صديق لدمشق أو انه يقصدها في طلب العلم أو لشراء حاجياته بأسعار أرخص من السوق اللبنانية.
بالمقابل فإن وزير خارجية سوريا وليد المعلم يعرف واشنطن جيداً، وبالذات وزارة الخارجية فيها، وكبار من كانوا فيها، وبالذات مجموعة الدبلوماسيين الذين اختارتهم الإدارة الجديدة وكلفتهم بشؤون منطقتنا، كما انه يعرف الكثير عن جيفري فيلتمان الذي جاء ليستكشف آفاق الحوار الجديد، مزوداً بتجربته «السورية» الغنية في لبنان.
ومفهوم ان ينطلق جيفري فيلتمان في رحلته إلى سوريا من لبنان، لكي يطمئن أصدقاءه القدامى الذين أقلقتهم هذه الرحلة المتعجلة إلى دمشق، ومن هنا قوله «ان لا تعارض بين الدعم القوي للبنان وبين الحوار مع سوريا»، وأن «التحدث مع الآخرين ليس مكافأة لهم»، وأنه كان لا بد من ان تمنح واشنطن «السوريين فرصة الاطلاع على ما يقلقهم».
هل اقتنع الأصدقاء القدامى لفيلتمان في لبنان، والذين جال عليهم واحداً واحداً قبل الذهاب، ثم عاد إليهم مطمئناً بعد لقائه المطول مع وزير الخارجية السورية في دمشق؟
العقلاء من بين هؤلاء، والذين «يقرأون» التحولات جيداً ويفهمون المحظورات التي تمليها الضرورات، رأوا في الرحلة الدمشقية لفيلتمان مؤشراً على هبوب نسائم توافقات اضطرارية، في المنطقة، عربية ـ عربية، وعربية ـ دولية، يحتاج إليها الأطراف جميعاً.
على ان أعظم ما يعود به جيفري فيلتمان من رحلته هذه يمكن ان يتمثل في كنوز الحكمة التي سمعها من رجال الدين في لبنان، وقد جال عليهم جميعاً ليثبت لإدارته انه يعرف من هم رجال الحل والربط في هذا الوطن الصغير الذي يتسع لثماني عشرة طائفة تؤمن كل منها انها مركز الكون!!
لكن ذلك لا يغير في الوقائع كثيراً: فكما ان الحرب الأميركية لاحتلال العراق لم تكن المدخل الصحي لعلاقات طبيعية مع سوريا، فكذلك فإن تهديد سوريا بحرب أهلية في لبنان ليس هو المدخل الصحي لحوار جدي يستهدف طي صفحة الماضي بأزماته الكثيرة، والتي عانى منها لبنان أكثر مما عانته سوريا بكثير، والتي لا يفترض عاقل ان الإدارة الأميركية قد حققت خلالها مكاسب جدية.
في الماضي كان في لبنان ثمة من يعترضون على ان تحاورهم واشنطن من دمشق، أو ان تحاور دمشق بالنيابة عنهم…
أما في الحاضر فيمكن الجزم بأن دمشق لن ترضى ان تحاورها واشنطن من بيروت…
وفي كل الحالات ستظل بيروت أقرب إلى دمشق من واشنطن، بشهادة جيفري فيلتمان الذي لم تستغرق رحلته بينهما إلا ساعة أو أقل.