برافو فيليب سيغان!. لقد علّمتنا، خلال زيارتك القصيرة والغنية بالملاحظات الذكية والسخرية المرّة، كيف يعوِّض تواضع المهزوم خسائر الرعونة المندفعة وراء الأوهام الامبراطورية التي طواها التاريخ وطوى معها أهلها والأتباع المكابرين في رفضهم التحوّلات الجذرية وحقائقها الجديدة.
لقد جاء هذا السياسي المخضرم الخصب التجربة والعريق في ديغوليته والعارف بالعرب لأنه مولود بينهم (في تونس)، من خارج دائرة الذكريات أو أنه جاء متخففد من أثقالها ليقدم الصورة الواقعية لفرنسا اليوم.
ورئيس الجمعية الوطنية الفرنسية الذي ترك باريس مهشمة بتأثير انعكاسات الأزمة الاقتصادية الخانقة وتداعياتها الاجتماعية، ومهمّشة بتأثير الطغيان الأميركي المتوحش على أوروبا كلها وأحلامها في دخول حلبة التنافس (لا أكثر!) كقوة موحدة، خاطب اللبنانيين بلغة لا يريد بعضهم سماعها فإذا سمعها لم يصدقها، بينما لا يريد آخرون أن يستوعبوا دلالاتها مكابرة، وبافتراض أنهم قد ختموا العلم وصاروا أساتذة ـ مراجع يؤخذ عنهم ولا يأخذون عن غيرهم.
لم يخطئ فيليب سيغان، في كلمة أو في تصرف، تقريبد: فبيروت واحدة من المحطات في جولته العربية الواسعة. أي أنها ليست جزيرة في محيط بلا ضفاف، وليست واحدة من ممتلكات فرنسا في ما وراء البحار، ثم أن أهلها ليسوا «أمة» هبطت بالمظلات من عالم آخر غير ذلك الذي ينتمي إليه السوريون والفلسطينيون والأردنيون والمصريون الخ…
لا بد من أن يجيء الحديث، إذن، من داخل منظور عربي شامل يتعدى النطاق اللبناني الضيق والإرث الاستعماري الذي كانت تستند إليه العلاقة الخاصة جدد والممتازة جدد بين كيان «مشرقي» مهجن وبين «أمه الحنون» عبر البحر الكولونيالي المتوسط.
كل ما كان هو بعض الماضي، والماضي قد مضى، أما المستقبل فمختلف جدد… وإذا كانت باريس لا تستطيع أو لا تمكَّن من أن تكون عاصمة الحل الأوروبي لمشكلات أوروبية تنذر بأخطار مدمرة كيوغوسلافيا، فهي بالتأكيد لا تستطيع أن تتعهد حلولاً في منطقة حبلى بالتحولات والتفجرات بحثد عن هويتها ودورها، فكيف بتعهد «كيانات» ورعايتها وتوفير الحماية لها من أهلها كما من بيئتها الطبيعية، بالانتماء الأصيل قبل الجغرافيا والتاريخ وشبكة المصالح الحيوية الهائلة..
وهذا كله قبل الولوج في «السلام الإسرائيلي» وما قد يحدثه في هذه الأرض العربية من انقلابات وثورات وتيارات تقول بالتغيير وتعمل له باسم الدين وتحت رايته المختزنة لمواجهة اليأس من الغرب وأنظمته العربية المقلِّدة والضائعة بين الموروث والمكتسب بحيث لا يتبقى منها إلا دكتاتوريتها الموظفة في خدمة الغرب وسلامه المفروض بقوة السلاح الإسرائيلي!
ü ü ü
السوق قبل السياسة، إذن. والجغرافيا عنصر حاكم والحاضر أقوى من الماضي، ولا شيء يمنع من اعتماد دمشق بوابة لهذا المشرق العربي، ويمكن القدوم إلى بيروت عبر طريق ميسلون من دون الجنرال غورو وجيش الانتداب.
الاقتصاد أولاً. المقاولات، الشركات. الإعمار. البنية التحتية. الشراكة. والاحتياجات مفتوحة في الأرض كما في الفضاء. الكهرباء، الهاتف، الاتصالات والمواصلات. المرافئ والمطارات والأوتوسترادات العريضة بما يكفي لعبور «السلام» ببضائعه الوفيرة.
والانتخابات مهمة بما هي ضمانة داخلية للشراكة القائمة، بين بيروت ودمشق من جهة، ثم بينهما وبين فرنسا بداية ثم أوروبا من جهة ثانية..
وبكركي ليست إحدى عقد المواصلات، ولا يجب أن تكون حاجزد على طريق المستقبل.
لقد ألغت التحولات عواصم ومرجعيات ودولاً كبرى وقوى عظمى، وعلى بكركي أن تدرك أنها لا تستطيع أن تبقى حيث كانت.
إنها اليوم واحدة من المرجعيات الرمزية، وقوة الرمز أن يحافظ على وهجه المعنوي، أما إذا أُنزل إلى «السوق» فلسوف يفقد الآخرة من غير أن يربح الدنيا.
لم تعد بكركي المرجعية الأولى، حتى عند فرنسا، ولا هي الأهم، والأخطر إنها ليست الوحيدة. لا هي مصدر القرار ولا هي صاحبة حق النقض (الفيتو)… و«سان لويس» مجرّد صفحة في تاريخ فرنسا القديم، لا ينفع الفرنسيين في كثير أو قليل فكيف باللبنانيين؟!
ثم إن القائل بالتعددية الثقافية عليه أن يسلّم، أولاً، بانتهاء عصر وحدانية المرجعية. والقائل بديموقراطية التوافق عليه أن يسلّم بجماعية القرار، طالما أنه أقرّ ـ أخيرد ـ أنه قد أفقد نفسه مواصفات المرجعية المتوافق عليها عندما اشتط بالتطرّف فأعاد إلى السطح مفارقة «امتياز» الأقلية بحقوق الأكثرية. التوافق بدلاً من العدد، لا بأس، ولكن كيف تكون الديموقراطية الناتجة عن «زواج» كهذا؟!
ü ü ü
فرنسا جديدة، ولبنان جديد،
فرنسا أكثر أوروبية من أي يوم مضى، ولبنان أكثر ارتباطد بواقعه العربي من أي يوم مضى، وطريقه كما مصالحه كما مستقبله متصل بسوريا اتصالاً لا يمكن ولا يجوز فكّه أو إضعافه، مع مراعاة كل الشروط الصحية للكيانين السياسيين.
وليس هذا التحوّل مجرد نتيجة مباشرة للعلاقة الجديدة بين فرنسا الديغولية وسوريا خاصة (والمنطقة العربية عمومد)، ولا هو فقط ثمرة العلاقة الشخصية الحميمة بين الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري.
لقد كان شيراك شجاعد في اعترافه بالواقع اللبناني الجديد، سياسيد ثم اقتصاديد، والذي يشكّل الحريري أساسد ثم سائر أطراف السلطة بعض تجليات ذلك التحوّل الجذري فيه.
وعندما استقبلت فرنسا ـ شيراك رئيس الحكومة اللبنانية مصحوبد بالوفد الوزاري الفخم، كانت تفتح صفحة المستقبل بمفاوضات تؤكد القطع مع الماضي، بشقيه الفرنسي الداخلي واللبناني القديم الذي يعيش لاجئد فيها لأنه لم يعرف كيف يكون حاكمد في بيروت من غير موقع العداوة لدمشق التي لم تعد «في الخارج» حتى لو كان موقعها في الداخل موضع نقاش.
الانتخابات، أي المشاركة، أي الانضواء في النظام الجديد، تلك هي النصيحة الفرنسية التي أكدها مجددد رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية.
للسينودس لغته وأدبياته، ولمواعظ الأحد سياقها، أما في السياسة فلفرنسا مفردات أخرى أكثر التصاقد بالمصالح وبالحقائق الجديدة.
ولعل زيارة فيليب سيغان قد طوت الحديث حول «النداء الأخير»، إذ نقلت الحوار إلى مستوى متصل بالمستقبل لا بالماضي، بحيث يمكن تسميته «النداء الأول» في «العهد الجديد».
أما دمشق فكانت قد سبقت فقالت كلمتها «اللبنانية» في باريس خلال زيارة نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، قبل أسابيع قليلة، والتي جاءت إعلاند فرنسيد صريحد عن اعتماد الواقع السياسي الجديد.
و«الشراكة» التي يكثر الحديث عنها الآن تشمل إضافة إلى لبنان وسوريا العراق مستقبلاً أو هذا ما يجري الاستعداد له.