طلال سلمان

في وداع طلال سلمان: الرجل الذي أسس”السفير” وأقفلها

نصفا بنصف كان شعورنا ينقسم تجاه مودّتنا لطلال سلمان أو سخطنا منه. كنا مجمعين، نحن العاملين في الجريدة، على أن فيه شيء يُحَبّ ويُقرِّب إلى القلب. الأرجح أنه كان لكلّ منّا فهمه لهذه المودّة التي، إذ نروح نتحاور في سببها، أو في طبيعتها، لا نتوصّل إلى شيء. أنا الآن، من بين من كانوا زملاء، لا أعرف كيف أجد لتلك المودّة سببا واحدا: هل هو شكله الحامل، ما يزال، ملامح من أهل قديمين، هل صوته الذي لا أتمكّن الآن من تذكّره كما هو؟ هل إحساسنا بالقرب ونحن في مكتبه، هناك في الطابق السادس، أو هل في مصادفة نزولنا معه في مصعد الجريدة؟

أعتقد أن بعضنا أعفى نفسه من مشقّة التفكير بإرجاعه ذلك إلى الكلمة التي شاع التداول بها في تلك الفترة: كاريزما. وكنت أجد أن هذه ليست كافية لأنها تحتاج بدورها إلى تفسير، أي إلى أن نعرف، بما خصّ طلال سلمان، على ماذا تقوم كاريزماه.

على أيّ حال كان طلال يجافي تلك الصورة التي كنّا نتخيّل بها كيف هو رئيس التحرير. ذلك، في العادة، يتطلّب نوعا من المواصفات في الظهور وفي السلوك لا ينطبقان عليه. أي أن زائر الجريدة لم يكن ليعرف من تلقائه مَن مِن هؤلاء الواقفين معا هو رئيس التحرير. وعلى مدار العشرة أعوام التي قضيتها موظفا في السفير لم أتوقّف عن رؤية ذلك الإختلاف بينه وبين الموقع الذي هو فيه. كأنه أتى من خارج ما ينبغي أن يكون. هكذا كانت جريدته على كلّ حال إذ بدت، منذ ظهورها، كأنها تخلّ بترتيب كان قائما ومستقرّا قبلها. ونحن، الموظّفين، لم تغادرنا هذه الواقعة حيث كان اعتراضنا متأتيا دائما من أنها لا تسلك بحسب نمط سلوك معتاد. في مقال قديم كتبته لأحد ملاحقها خُصّص لمناسبة صدورها الأوّل قلت أن المقالات والأخبار والتعليقات هنا لا تسير تلقائيا في مجار تعرفها على الصفحات، هكذا مثل مواشٍ لا تعرف الطريق إلى حظائرها. ما ينبغي أن يكون تقليدا كان يجري خرقه، وفي أحيان كنا نتحلّق، نحن الموظّفين، معترضين، لكن بما يشبه الاحتفال، على مانشيت نشرها طلال سلمان، وهو بكامل حماسته، على أحد الأحداث الكبيرة. من ذلك مثلا المانشيت الأقرب إلى أن تكون شتيمة: “الساقط عند المغتصب” في العدد المخصّص لذهاب أنور السادات إلى إسرائيل لملاقاة مناحيم بيغن، أو، قبل سنوات، كتابته المانشيت باللغة الفارسية تأييدا لثورة الخميني.

هي سنوات المغامرة والإفصاح عن الانحياز، وذلك في وقت ما كان الحياد هو ما ينبغي إظهاره والاعتداد به

إذن كنا نحتفل بما هو أخطاء، وذلك من ضمن وجودنا الإحتفاليّ العام بكوننا هناك، في المكان الذي يجري حوله الكلام في البلد كلّه. كان على السفير أن تخترع شيئا كل يوم لكي يظل حضورها قويّا كما هو، ذاك أن لا تاريخ يُساعد ولا تقاليدُ تشفع. لهذا كنا، نحن الذين نُصدر الجريدة، أول قارئيها في الصباح. ربما لنعرف ماذا فعلنا بالأمس.

كنا نحتفل بكوننا هناك إذن على الرغم من اعتدادنا بأن هناك مسافة بيننا وبين ما يٌسمّى خطّ الجريدة. كنا نعلّل ذلك بالقول أننا جئنا أصلا من خارج الجريدة وليس من داخلها. وكان طلال سلمان عارفا بتلك المسافة، ومتنبّها لها جاعلا إيانا، نحن العاملين في صفحة الثقافة وملحقها، أن لا نشتطّ في الارتماء بأحضان الثقافة الغربية. كما لم يكن موافقا على نشر أعمال كتبت بالعامية اللبنانية. لكن، باستثناء هاتين القاعدتين، كانت الصفحة لنا بالكامل، أي أننا نتصرّف فيها كما نشاء. أذكر أنه، مرّة واحدة، أرسل لي قصيدة كتبها صديق له أرفقها هو بكلمات قليلة: “إذا وجدت القصيدة مناسبة..”. هذا ما لن يعرف أهميته المشتغل بالصحافة إلا بعد تجارب يعيشها في مجلات وجرائد أخرى.

في يوم خطر لي أن المقتطف من كلام جمال عبد الناصر، الذي يوضع يوميا في أعلى الصفحة الأخيرة،  استنفد نفسه بعد أن صار تقليدا استمر منذ بدء صدور الجريدة قبل سنوات. ما كان دعاني إلى أن أقترح عليه إزالته ليس موقفا معاديا لناصر بل لكون هذا التقليد بات عتيقا، ولأني كنت أرى الكتاب الئي تؤخذ منه تلك الأقوال- الجمل، والموضوع على مكتبه، بات باليا من الإستعمال اليومي. رض اقتراحي بشدّة فاجأتني، بل إنه ربما قال لي إن هذا ليس من شأني.

كان عروبياً، أي ناصرياً، ومصرياً تاليا. يأخذني إلى ذلك الظن حرصه على أن يكون بين العاملين في الجريدة كتّاب من تونس والأردن وفلسطين ومن مصر التي تحمل إحدى قاعات السفير اسم ابراهيم عامر وهو أحد الذين كانوا من أركانها، وبين المصريين كبار مثل مصطفى الحسيني، ومحيى الدين اللباد الذي كان دائم الحضور فيها رغم إقامته في القاهرة. وطلال مصري أيضا في معرفته بمصر، وبإطلاقه نكاتاً مصرية في السهرات، وباستخدامه عبارات من قاموسها اليومي. كنا نقول إنه كان هناك في مصر عبد الناصر، نقصد ثقافته وهواه، وهو ما زال هناك، معيّنين تلك المسافة التي كنا معتدّين بوجودها بيننا وبينه. وهذا ما كان يخطر لي كلما مرّ في ذهني طلال سلمان، وهذا التذكّر غالبا ما يحدث ما دمت قد قضيت سنوات عديدة من حياتي، وهي أجمل السنوات على الأرجح، معه وإلى جانبه.

بين ما راح يخطر لي الإحتفال بعيد السفير، وكان ينعقد كل عام. في بعض الأعوام كان يجري ذاك الإحتفال على مرحلتين، مرحلة أولى رسمية يُدعى لحضورها إعلاميون وسياسيون وموظّفو الجريدة طبعا، وحفلة أخرى خاصة يحتفل بها طلال مع خاصّته من الناس ويحييها المغني علي حليحل بصوته المدوي بأغنيات من قبيل “هايكالو هايكالو” ترافقه فرقة الدبكة البعلبكية راقصة على إيقاع تلك الأغنيات. أجدني، كلما خطرت لي تلك الإحتفالات أن أقول إن طلال سلمان الناصري هو أيضا ما قبل ناصري، خاصّة حين يأخذني تذكّري إلى ذاك الحفل الغنائي الشهير الذي أقيم بطلب من جمال عبد الناصر: كان محمد عبد الوهاب هو مايسترو الحفل، أما المغنيات والمغنون فكانوا يتوالون الظهور بإعداد مسرحي كان باهرا، مؤدين، بمشهدية حماسية وجماهيرية،  ما يمكن اعتبارها أغنيات الزمن الناصري.

بالتدريج، لكن المفاجىء والسريع، صار ينطفىء الضوء على ذلك الزمن، مسرحه وأبطاله وكل ما كان جرى فيه. ربما لم تحتمل صحّة طلال سلمان تلك المفاجآت التي انتهت بإقفاله الجريدة. كما لم تحتمل ذاكرته التي هي أكثر احتشادا وامتلاء من ذاكراتنا جميعا، على خسارة ذلك الزمن، فداوم على الذهاب إليه، حارسا له. كان يدعونا، نحن القدامى، إلى أن نشاركه بذلك. لم نفعل. لم ينفع تداعينا إلى اللقاء لنذهب معا إلى هناك. عذرا طلال، وسلاماَ.

درج ميديا

Exit mobile version