طلال سلمان

في وداع فتى ابراهيم رحيل

استيقظ الفتى إبراهيم رحيِّل قبيل شروق الشمس، كعادته كل يوم، فأفطر مع أبيه وأمه وأخواته الثلاث، ثم حمل زوّادته وعصاه وقصد الزريبة وفتح الباب أمام القطيع الذي يعرف طريقه إلى مرعاه…
كان الفتى إبراهيم رحيِّل يعرف الأرض بتضاريسها كما يعرف ملامح وجهه، مع أنه لم يتسنّ له يوماً أن يطلع على الخرائط التي تمّ فيها ترسيم الحدود الدولية. كان يعرف فلسطين بقلبه، وكان يعرف سوريا بعقله، وكان يصدق الأرض أكثر مما يصدق السياسيين.
كان الفتى إبراهيم رحيّل يعرف أين يقبع العدو الإسرائيلي، مخترقاً الحدود الثلاثة ومعها قرارات مجلس الأمن الدولي والقمم العربية وتصريحات زعماء الطوائف والمذاهب والملل… بل إن القطيع نفسه كان يشم رائحة »العدو« فلا يتجاوز »خط النار« حتى لا يعطيه ذريعة للادعاء بأن لبنان لا يحترم »الخط الأزرق« وسائر ما ترسمه القرارات الدولية من خطوط على جانب واحد من الحدود، بينما تترك لإسرائيل حرية الحركة باعتبارها ضعيفة لا تملك إلا مئتي رأس نووي وأقوى خامس جيش في العالم ومع ذلك فهي مهددة في وجودها.
وكان الفتى إبراهيم رحيّل يعرف أن رجال المقاومة هناك. يكاد يسمع أنفاسهم ونبض القلوب، ويكاد يتلمس تحرّقهم إلى رؤية شبح أي جندي من جنود الاحتلال أو أية آلية له، تتحرك في اتجاه تلك الدشم العظيمة التحصين، والتي اخترق بها العدو التلال والهضاب فجعلها خنادق ومعابر سرية تخفي حركته داخلها… وأنهم كثيراً ما جاؤوا فانتظروا ثم انصرفوا آملين أن تخدمهم المصادفات غداً فيكون صيدهم عظيماً.
وكان الفتى إبراهيم رحيّل مثل أهل منطقته جميعاً، كفرشوبا وشبعا وكفرحمام والهبارية والماري، يعرف أن الغدر في الإسرائيليين طبع، وأنهم في خوف مقيم من »المجاهدين« الذين تستولدهم الأرض من رحمها، ثم تطوي عليهم حناياها، فلا يراهم العدو المتربص بهم في قلب دشم خوفه..
بل إن قطيع الفتى إبراهيم رحيّل كان يتصرف بحذر، متجنباً اجتياز ما بات يعرف بالسليقة أنه خط نار…
وحين ارتفعت الشمس فألقت ظل الفتى إبراهيم رحيّل أمامه، أجال بصره في تلك الجنة الخضراء التي ما زالت بكراً، لم يدهمها التلوث ولم يزحمها البناء العشوائي، وقد أطلت بواكير زهورها البرية متعة للناظرين هتف بغير قصد: سبحان الله… ما أجمل الأرض وأبهاها!
دوّت الطلقات متلاحقة، ولم ينتبه الفتى إبراهيم رحيّل إلى أنه قد أصيب في أنحاء مختلفة من جسده إلا بعدما انبجس الدم غزيراً من رأسه وصدره، فتهاوى في اتجاه الأرض التي طالما كانت له ملعباً وفراشاً ومدى لأخيلته المجنحة: غداً، عندما يكبر، سيبني بيتاً غير بعيد عن »بسطرة«، وسيشتري صحناً لاقطاً ليتمكن من متابعة برامج الترفيه والغناء التي يسمع الجيران يتبادلون أخبارها متى جنّ الليل.. غداً ستكون له عروسه وستكون له عائلته.
كان آخر ما ارتسم في حدقتي عيني الفتى إبراهيم رحيّل وجوه أمه وأبيه وأخواته الثلاث.. وأحس بما يشبه الخجل، لأنهم قد يفترضون أنه خذلهم، فغاب عنهم قبل أن يمتّع بالشباب، وحرمهم من أن يفرحوا به عريساً.
… وسيكون على الفتى إبراهيم رحيّل أن يتلبّث حيث سقط فوق صدر أرضه في انتظار أن يكتشفه جارهم إبراهيم فادي عبد العال، الذي كان في نزهة صيد، فيبكيه وحيداً، ثم يحمله مع حزنه ليعود به إلى أهله، يتبعه القطيع الذي فقد راعيه وقد امتنع عن الثغاء، تاركاً لجرس الكرّاز أن يعزف حزن التلال التي يهبط عبرها حرمون إلى فلسطين.
* * *
بعد اليوم، سيخجل أولئك الذين ابتدعوا موضوعاً جديداً للسفسطة العبثية حول ترسيم الحدود، لعلهم سينتبهون إلى أنهم يتوغلون في خدمة إسرائيل أكثر مما ينبغي وهم يصرّون على كلمة »حصراً« حدوداً لجهد المقاومة في الدفاع عن الوطن.
صار الخط الأحمر الذي رسمته دماء الفتى الذي بات الآن شهيداً، إبراهيم رحيّل، هو الحد الفاصل بين الخطأ الجغرافي والخطيئة الوطنية.
لقد تمّ ترسيم الحدود، بدءاً بمزارع شبعا، كما يريد »الحصريون«…
لقد ثبتت ملكية لبنان لهذه المزارع المرسومة بدماء الشهداء.
… ويستطيع الفتى إبراهيم رحيّل أن يرقد في جنّة الخلد مطمئناً إلى أنه قد أعاد تأكيد الحقائق التي لم تكن بحاجة الى تأكيد إلا لمن أعماه غرضه عن رؤية حقيقة إسرائيل: العدو، أمس، واليوم وغداً…
وكذلك فقد أقرّت الحكومة ومجلس النواب مجتمعين، أن المقاومة هي مقاومة!

Exit mobile version