لولا حرقة الموت، لكان سهلاً علينا أن نصدق أن مصطفى ناصر قد تغيب عن هذا الاحتفال بحضوره الدائم لارتباطه بموعد آخر أكثر أهمية.
كان رحمه الله يستطيع أن يتواجد في أمكنة عدة في الوقت نفسه: في جدّه او دبي او بيروت عند اصهاره، في الضاحية يرتب موعداً للرئيس الراحل رفيق الحريري مع سماحة السيد حسن نصرالله، في طهران رفيقا لصحافي القرن محمد حسنين هيكل في لقائه مع الرئيس الايراني هاشمي رافسنجاني، في باريس في مهمة خاصة لا يكشف اسرارها حتى لعائلته، او في الزيارة المسائية لـ”السفير” حيث يكشف لنا بعض اسرار السياسة اللبنانية وهو يسألنا عن آخر الاخبار.
هو هو الذي كان يعرف أكثر مما يجب، في السياسة. داخلياً وعربياً واقليمياً، في الاقتصاد الذي قاربه رابحاً من دون ن يتوغل فيه مغامراً، في الصحافة التي مارسها من منازلهم، في الاجتماعيات، وهذه خريطة اصهاره تشهد له بذلك.
“العارفة”، كما كان يقول العرب. يستدرك بالسؤال وكأنه قد وصل لتوه، فاذا ما عرضت ما تعرف، فاجأك بانه يعرف اكثر منك بكثير، ولكنه اراد أن يدقق معلوماته عبرك.
لم يُعرف عنه انه قد خاصم احداً لأسباب شخصية، او حتى سياسية. كان يقبل الناس كما هم، مفترضاً أن السياسة لعبة، إن فهمتها ربحت منها، وان ابتعدت عنها ربحت أكثر.. لذلك كان أهم وسيط سياسي، لأنه لم يكن يبتغي ربحاً مادياً او تحقيق مكاسب معنوية..
كان يكتفي بمتعة أن يعرف..
ولقد عرف، رحمه الله، الكثير الكثير، عن الدول والناس والاحداث في هذه المنطقة التي تعيش حالة من القلق المفتوح على المجهول..
لكنه، كان بإيمانه، قادراً على استيلاد التفاؤل وابتكار الحلول، ولو بإرجاء انفجار المشكلة حتى يمكن الوصول إلى الحل المنشود.
مصطفى ناصر، أيها الصديق العزيز: لقد خذلتنا.
كنا ننتظرك فارساً يُكمل الرسالة التي بها آمنت، لكن القدر غلبك وغلبنا. رحمك الله وحفظ أسرتك وعوضنا عنك في الدنيا خيراً وفي الآخرة مغفرة.