مؤكد أن الرئيس السوري بشار الأسد هو أكثر العرب انسجاماً مع نفسه وارتياحاً إلى مواقفه بنجاحاتها التي حققت لسوريا، وله شخصياً، مكانة متميزة تتجاوز النطاق العربي والمستوى الإقليمي بل والدولي أيضاً. لقد عادت سوريا «رقماً صعباً» لا يمكن تجاهله في أي بحث في شؤون هذه المنطقة التي ينتبه العالم لأهميتها أكثر مما ينتبه لذلك معظم المسؤولين في العواصم العربية. وليس جديداً القول إن دمشق أكثر عاصمة عربية تستقبل ضيوفاً، بينهم رؤساء دول، ووزراء لدول كبيرة، وموفدون رسميون وموفدون أكثر أهمية، أحياناً، لكنهم يفضلون عدم الإعلان عن زياراتهم.
أول الكلام: لبنان، وإن اختلفت نبرة السؤال. لم يعد الوضع في لبنان هاجساً مقلقاً للنظام في سوريا. مركز الاهتمام الآن عودة الروح إلى العلاقات بين البلدين التي وصلت ذات لحظة قدرية إلى مستوى «شعب واحد في دولتين». لكن ذلك من الماضي، وصفحة الماضي قد طويت بكل ما يسعد فيها وما يحزن، بوجوه النجاح فيها والفشل المدوي. سعد الحريري ضيف على الرئيس شخصياً ثلاث مرات.
المرة الأولى هي الأصعب، لكن الصراحة المطلقة أنجحت اللقاء الأول وفتحت الباب لعلاقة تكتسب تدريجياً، المزيد من الإلفة والود. لا بد من طرد الشكوك والريب ليمكن التطلع إلى المستقبل. يجب القطع مع ماضي الاتهامات والافتراءات. الشرط أن يترك أمر جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بكاملها، إلى المحكمة الدولية، وليس أن تنقل «الإبرة» من موقع سوريا إلى موقع «حزب الله». من يرد علاقات طبيعية تستعيد وشائج الأخوة عليه أن يهجر الشك لا في سوريا وحدها بل كذلك مع القوى ذات الرصيد الجهادي المميز. لا يفيد أن يبرأ النظام في سوريا ثم توجه التهمة، بالإيحاء والتسريب المشبوه إلى الحليف الاستراتيجي لسوريا في المواجهة مع العدو الإسرائيلي. وليد جنبلاط بذل جهداً للخروج من الموقع الخطأ واستعادة علاقة التلاقي على الثوابت الوطنية والقومية مع دمشق. هو موضع الترحيب، ولا نقاش في الماضي. تيمور يبدأ من النقطة الصح. الحرص مؤكد على موقع الرئاسة ودور رئيس الجمهورية. ينتظرونه خلال أيام في دمشق. العلاقة مع العماد ميشال عون تحتل موقعها الطبيعي في العلاقة باختياره. الحرص على الجيش مؤكد. خريطة الطوائف والمذاهب معقدة وتفرض ذاتها على المنطق السياسي. غياب المناخ العربي الموحد يفتح أبواب المخاطر. تستبطن الدول الطوائف. تتكلم باسمها أحياناً. تجد إسرائيل لها موقعاً، حتى ولو لم يقصد بعض القادة الطوائفيين.
العلاقة مع الدول العربية بعضها جيد. بعضها عادي. المشكلة مع مصر معقدة أكثر مما يظن. ثمة من سعى إلى تخريبها. إعادتها إلى سويتها تتطلب جهداً استثنائياً ممن خربها.. هناك.
أما تركيا فيطيب الحديث، في مجلس الرئيس بشار الأسد، عن الدور المهم جداً والحيوي جداً الذي لعبته وتلعبه قبل «أسطول الحرية» وعبر المواجهة الدموية، وعبر المواقف الحازمة حافظة الكرامة والهيبة، وبعد ذلك كله. لقد قدمت تركيا إسرائيل للعالم متلبسة بالقتل العمد. فضحت طبيعتها العنصرية، فضحت حقيقة حصارها: هي لا تحاصر شعب فلسطين في غزة، حتى الموت، فحسب، بل إنها تحاول جعل البحر الأبيض بحيرة إسرائيلية. لقد هتكت حرمة الشرعية الدولية. لقد خرقت كل القوانين والأعراف. ارتكبت ما يتجاوز القرصنة. جيشها بوحداته الخاصة، بالمظليين في المروحيات، باشروا القتل لإرهاب العالم كله. وردّت تركيا كما ينبغي أن تردّ دولة أساسية في المنطقة، وبحكم متجذر في أرضه وفي أوساط شعبه. حكم يحترم نفسه، ويرى في فلسطين، ممثلة بغزة المحاصرة حتى الموت، قضيته أيضاً، بدوافع يختلط فيها الوطني مع الديني مع الإنساني. إنه شرف تركيا ومن حق حكومتها أن تدافع عنه بالوسائل جميعاً. ثم إنه موقف تشارك فيه تركيا العديد من دول أوروبا فضلاً عن العديد من دول عدم الانحياز.
ليست دمشق بحاجة لأن تصدر البيانات تأييداً للموقف التركي. هي ترى نفسها فيه وليس معه فحسب. ولعلها قد لعبت دوراً في ما يراه بعض العالم تحولاً جذرياً في هذا الموقف. وتركيا لا تلغي إيران ودورها في المنطقة. التكامل ممكن بل ومطلوب، ويمكن لسوريا أن تلعب دوراً مهماً في هذا المجال. «الثلاثي» لا يشكل «محوراً ضد الآخرين». لكنه عامل حماية لصالح المنطقة وتأمينها.
ونجدة غزة واجب وطني وقومي وإنساني، وليست تلبية لنداء العاطفة الإسلامية وحده. العالم كله وبعض أوروبا خاصة، يشارك في الحملة لنجدة غزة وفك الحصار الإسرائيلي عنها. تقدير خاص للمطران كبوجي الذي شارك ـ برغم تعب السنين ـ للمرة الثانية في حملة لنجدة هذا الشعب المحاصر والمحصور والمتروك وسط بيوته ومدارسه وأكواخ لجوئه (السابق) المهدمة. المسألة ليست طائفية. هي قضية إنسانية، فضلاً عن كونها قضية قومية ووطنية.
لهموم العراق مساحتها الخاصة. يتناقص الخوف من شبح الحرب الأهلية. لقد وفرت الانتخابات فرصة لخيار قيام حكم وطني جامع يؤكد الهوية العربية لهذا البلد الشقيق والجار، ويساعد على تضميد جراحه. دور دمشق أن تغلب أسباب التفاهم على التناقضات. المصارحة ضرورة، وتنسيق المواقف مع إيران التي يصعب عليها نسيان حرب صدام الطويلة عليها، ومع تركيا التي تنظر بحذر إلى موقف الأكراد، ومع السعودية، ومن خلفها دول الخليج، كل ذلك ضروري لحماية وحدة العراق.
يتوافد الرسل من واشنطن، فيهم من أهل الحكم وفيهم من المعارضة. الكل مهتم بدور سوريا. صدرت بعض الإشارات الإيجابية، عملياً (قطع غيار للطائرات المدنية) ولقد ردينا على التحية بالتحية. لا تحول جذرياً. لا مجال للمراهنة على تغيير جدي في الموقف من إسرائيل. الرئيس أوباما هدف لحرب توحي وكأن الغاية من إيصاله إلى سدة الرئاسة قد تحقق وانتهى الأمر. وأغلب الظن أنهم سيعملون ضد ولاية ثانية له. إنهم يتسببون في إحراجات وإشكالات لكشف ضعفه، يومياً، لا سيما في كل ما يتصل بإسرائيل. دفعه إلى الحرب على إيران: «إن لم تهاجمها القوات الأميركية سنهاجمها بقواتنا». يقول له الإسرائيليون. منطق روسيا والصين: «سنتفادى الحرب بعقوبات نعرف استحالة تنفيذها. سنحذف من القائمة كل ما يتصل بحياة الإيرانيين».
[ [ [
الهموم السورية ثقيلة: الاقتصاد، أولاً. لم تتحرك النخوة العربية، ولو للاستثمار والتوظيف في سوريا. المساهمات محدودة جداً. الجفاف ألحق بسوريا أضراراً ثقيلة. لا تشكل تركيا منافساً خطيراً للصناعات السورية. في البداية تأثرت حلب بعض الشيء، ثم عوّضت «باقتحامات» في تركيا ذاتها. وها أن أكثر من مئة وخمسين مصنعاً يقوم السوريون ببنائها الآن في مصر.
والخاتمة عودة إلى لبنان. لا بد من إنعاش العلاقة بما ينفع الناس حتى يلمسوا خيرات الأخوة. بين المشاريع المطروحة للنقاش تحويل الحدود اللبنانية ـ السورية إلى منطقة استثمار مشترك، يفيد منها الفلاحون وأهل الأرض على طرفي الحدود. لا بد أن يلمس كل مواطن في سوريا كما في لبنان بأن «الأخوة» مصدر خير ينعكس على حياته بشكل محسوس.
[ [ [
برنامج الرئيس السوري بشار الأسد مزدحم بالمواعيد. لكن لبنان له أولوية في العاطفة كما في الاهتمام السياسي. أما فلسطين فلا تغيب عن أي لقاء. إنها القضية، في الماضي والحاضر والمستقبل.