الكويت أمس في الغد..
أعطانا الأخوة في الكويت، بشخص مجلس الأمة »إجازة« من همّ المتابعة التفصيلية، وعلى مدار الساعة، لهجمات الاحتلال الإسرائيلي المواكبة والممهدة أو المستوعبة لتداعيات هجومه الجديد والمكلف بالانسحاب من لبنان، لنتابع على امتداد ثلاثة أيام طويلة مناقشات غنية ومستفيضة حول كيفية خروج هذه الدولة الصغيرة من إسار احتلال آخر، عربي هذه المرة، هو احتلال العراق وما ترتب عليه من نتائج مدمرة، ومستقبل العلاقات بين القطرين اللذين كانا شقيقين في الماضي واللذين لن يكونا أبداً في غد ما كاناه في سالف العصر والأوان.
لكن »الإجازة« التي نقلتنا من همّ عربي تراجع تدريجياً لينحصر في لبنان ومعه سوريا إلى همّ عربي آخر يفترض أصحابه الخليجيون أنه محصور فيهم، سرعان ما أفسده المنطق العقلاني للاستراتيجيات الدولية التي لا تعترف بحدود الدول الصغرى، لا سيما إذا كانت غنية، ثم ألغاه تماما ذلك المشاغب (أو المقامر) المحترف القطري حمد بن جاسم بن جبر، وزير الخارجية الأعظم، الذي هبط على الندوة الكويتية بالمظلة وألقى في بركتها الهادئة أو المهدَّأة عمدا حجرا كبيرا بكلمة صغيرة هي »التطبيع« بين العراق والكويت فأعادنا، ولو وحدنا، الى ما كنا فيه من همّ الاحتلال الإسرائيلي وانسحابه المدروس الذي قد يفتح الباب أمام كلمات مريبة قد لا يكون »التطبيع« أخطرها..
ومن باب الفضول، وإن غلبه شيء من الغم، جلسنا نتسقط ذكر إسرائيل في الكلمات المكتوبة أو الشفهية، أو في المناقشات، فلم نكن نجد لها أثرا، اللهم إلا إذا نحن اعتبرنا ان كل إشارة أو حديث عن السياسة الأميركية أو مخططاتها للهيمنة المطلقة على »منطقتنا« إنما يتضمن إسرائيل ويعنيها، وبالتالي فإن كل موافقة طبيعية أو اضطرارية تشملها كما يشملها رفض هذه الهيمنة، ولو بصوت خافت وبمنطق يستدرج عروضا جديدة لفصائل عراقية أو شخصيات جديدة أكثر مما يجهر بموقف مبدئي شجاع يبدو ان أيامه قد انطوت في ضمير الماضي الذي لا يستعاد.
لا مجال لاستذكار ما تدل عليه الأيام أو أحداثها: الذكرى 52 لإقامة دولة إسرائيل فوق الأرض الفلسطينية، استقبال »المهاجر« المليون المستقدم إليها من دول الاتحاد السوفياتي السابق، واستطرادا بالنسبة للبنان: اتفاق الاذعان 17 أيار 1983 الذي كلفنا إسقاطه الكثير لكنه أعطى العرب صفحة مشرقة في تاريخهم الحديث، والذي يبدو ان إيهود باراك يحاول الوصول الى مضمونه الآن بطرق أخرى عنوانها تهديم الارادة قبل البنية التحتية، ومن ثم يسهل في ظنه التوقيع أو التطبيع من غير توقيع أو كلاهما معا!
* * *
لنعد إلى الندوة المهمة جدا، بالمبادرة إلى عقدها، وبشخص الداعي إليها، ثم بالمدعوين والمشاركين، وبتوقيتها، ثم بما تضمنته الأوراق وبعضه خطير، وأقله مثير، وكثير منه مكرر ومعاد ولو بغير فائدة..
العنوان بذاته حدث: ندوة مستقبل العلاقات الكويتية العراقية.
المنظم والداعي: مجلس الأمة، بشخص لجنة الشؤون الخارجية فيه المعقودة اللواء »للزميل« محمد جاسم الصقر، بالتعاون مع مركز الدراسات الاستراتيجية المستقبلية في جامعة الكويت، وعلى رأسه الأسير المحرَّر المحرِّر الدكتور غانم النجار، الذي كلما اشتد عليه الأسى والضيق اتسعت ابتسامته وأضاف الى أعبائه مهمة جديدة.
فأما المشاركون، كمحاضرين أو معقبين، فهم 32، بعضهم من الدارسين والباحثين الأكاديميين (ومعظمهم يحمل الجنسية الأميركية أو البريطانية) أما من العراقيين فهم »شخصيات« وإن كانوا فعلاً أو ضمناً يمثلون تنظيمات وأحزابا في المنفى، معظمهم معروف بصلته بمركز القرار الأميركي والباقي من التنظيمات الإسلامية، المتعددة الاتجاهات والولاءات والمتفاوتة في قوتها الشعبية أو قدرتها على التأثير.
ومع حرص الكويتيين الشديد على نفي الطابع السياسي المباشر عن الندوة، ومحاولتهم التأكيد أنها تتناول طبيعة العلاقات مع العراق مستقبلاً، استعداداً لما لا بد سيكون، ذات يوم، فإن المشاركين العراقيين بمجملهم ركزوا كلامهم على »العلاقة« ولو من موقع الصراع أو الاعتراض مع صدام حسين، والموقف الأميركي المريب منه والذي يدفع الى الشك في احتمال »التواطؤ معه«!
أما الأميركيون والبريطانيون ومَن يقول قولهم فقد كانوا شديدي القسوة في صراحتهم، وخصوصا أنهم كشفوا بالوقائع عجز التنظيمات العراقية المعارضة، و»طمع« بعضها، والخلافات الشخصية التي عصفت ببعضها الآخر، وبعدها بمجملها في ما عدا بعض التنظيمات الشيعية عن الأرض، وعن المعلومات الفعلية وبالتالي جهلها بقوة النظام وعجزها عن إسقاطه.
والحقيقة ان ما اعلن في الندوة وقيل فيها كثير ومثير ولا مجال لعرضه هنا، وسنعود اليه لاحقاً، ولكن لا بد من تسجيل جملة من الملاحظات ابرزها الآتية:
اولا ان الندوة التي لم تكن مفتوحة، قد شهدت حضوراً دبلوماسياً ملفتاً، اميركياً بالدرجة الاولى، ومن ثم غربياً وعربياً. وكان الحضور يعبر عما هو ابعد من الاهتمام. كان يلخص سؤالا كبيراً حول المعنى او الهدف.
ثانياً ان عقد الندوة، وبتوقيتها، قد فرض طرح السؤال عن احتمالات التحول في السياسة الاميركية تجاه صدام حسين ونظامه: هل سلمت واشنطن باستمراره، كأمر واقع، فصار مشروعاً او مطلوباً البحث في امكان التعايش معه، ولو بشروط؟!
ثالثاً يتصل بذلك ويؤكده ان فكرة عقد الندوة قد حظيت بترحيب اميركي شبه معلن، وكان بديهياً من ثم ان تسمع من بعض الدبلوماسيين العاملين في السفارة الاميركية بالكويت امتداحاً لشجاعة الفكرة والمبادرة وضرورتها استعداداً لما قد يكون او لما لا بد سيكون.
رابعاً ان الندوة وبمقدار ما تؤكد انتعاش تيار عقلاني او واقعي في السياسة الكويتية، تقدم في بعض جوانبها دليلا على انتصار وجهة نظر على اخرى.. ولكل منها رموزها البارزة في الحكومة كما في مجلس الامة، ولعله عبر هذه الندوة قد اثبت هذا التيار مجدداً انه مركز القرار.
خامساً يتصل بذلك ان المشجعين على عقد الندوة (وحماتها؟) يدركون ان فتح الكلام في موضوع العراق مع طرح التطبيع مع نظامه ولو كاحتمال، انما يحظى بتشجيع مؤكد ممن يبحثون عن دور اقتصادي مهم للكويت.
والبعض يقول ان مبادرة دولة الامارات، سياسياً، الى فتح الباب للتعامل مع الامر الواقع وتجاوزه بالدعوة الى مصالحة عربية شاملة، واقتصادياً الى تشجيع المركز التجاري الممتاز على اقتحام السوق العراقية وتلبية احتياجاتها، ربما كان في خلفية القرار الكويتي كما يعبر عنه التجار بفتح الباب موارباً او طرح الامر للتفكير تمهيداً للتدبير.
سادساً اذا كانت قطر بلسان وزير خارجيتها قد كشفت الورقة المطوية فليس واضحاً ان السعودية تشجع مثل هذا التوجه، ولعلها الى معارضته اقرب… لكنها لا تعترض على التلويح بورقة فتح الباب لأغراض تكتيكية اميركية، ومن ضمن رؤيتها الشاملة للتطورات المحتملة في المنطقة.
وتبقى واقعتان اقرب الى الطرافة منهما الى الجد:
اولاهما ان المقرىء الذي استنجد به في جلسة الافتتاح كان من السلفيين، وهم شبه امتداد للوهابيين الذين يتولون الاحكام في السعودية،
اما الثانية فهي ان الفندق حيث عقدت الندوة هو من بين الفنادق التي احرقها الغزو العراقي للكويت.. والصالة التي عقدت فيها الندوة هي »صالة افراح« تحمل في المزركشات التي تغطي سقفها شعرا يقول في جملة ما يقول:
»قاعة قد جمعت في حسنها
زخرف النصر وزهو الاولين
فهي للافراح حقاً انشئت
كم وكم ضمت من جموع المحتفين
كم قران تم فيها بالبها..
طلعت منها فتاة بالقرين«
كنا، نحن »المشارقة« نسمع فيذهب تفكيرنا احياناً الى حجم خسارتنا باحتراق الكويت وضياع العراق واندثار التضامن العربي.
وكان لا بد ان يعبر بالخاطر سؤال من نوع:
هل في الجو ما يشير، ولو من بعيد، الى انتقال الاهتمام الاميركي (او التهديد بانتقاله؟) من عملية التسوية، لا سيما ما يختص بلبنان وسوريا الى العراق والكويت والخليج برمته وصولا الى ايران؟!
لكن هذا سؤال افتراضي ليس اكثر،
اما ما ليس افتراضاً فهو ان بيروت بعيدة جداً من هنا، بالكاد يصل صوتها، وبالكاد يصل اليها من هنا الصوت خصوصاً اذا لم يكن عربياً خالصاً،