كالعادة: نتصرف ثم نبدأ بنسج التبريرات لسوء التصرف او لنقص الاستعداد.
هكذا، فجأة، وبلا تحضير جدي ومدروس، وبلا مراكمة خبرات وتجارب، اقتحم »العرب« الفضاء فزحموه بأقنيتهم التلفزيونية المتميزة بالكم الهائل من الثرثرة والتنظيرات الاستراتيجية الخطيرة التي ضاقت بها الأرض فكان لا بد ان تحتل السماء لكي يسمع بها فيهتدي من ما زال في حيرة من أمره،
قررت الحكومات فرصدت الموازنات واستأجرت القنوات ثم انتخبت من بين الحسان المذيعات، وأعدت من بين رجالها المخلصين المذيعين ومقدمي البرامج المتخصصين في انتزاع المدائح والإطراء من المتحدثين كافة، عرباً وعجماً، موالين ومعارضين، مقيمين او ضيوفا عابرين..
جاء السماسرة بحقائبهم العجيبة يعرضون البرامج اللطيفة والظريفة، والأفلام، قديمها والحديث، والمسلسلات على أنواعها،
وجاء المنتجون يعرضون ان يكتبوا ويصوروا ويخرجوا في اليوم نفسه ألف شريط ومن كل صنف ولون: من البرامج الغنائية الى الفوازير ومختلف ألعاب الميسر المموه بكلمة »حظ«، الى الكلمات المتقاطعة، الى المجادلات السياسية المثيرة كالأفلام البوليسية، الى مناقشات الأضداد التي تنافس في جماهيريتها حفلات المصارعة الحرة.
الأساس في المنافسة: ان نسبق الى احتلال الفضاء!
والمغزى: أن نقنص قبل المحطات الأخرى مشاهير المتكلمين،
اما المردود السياسي فهو ان نثبت اننا وان كنا ضد الديموقراطية »تحت« فنحن معها بالمطلق »فوق«،
تساقطت التخوم بين الحكومات الغنية والحكومات الفقيرة، فإذا الكل ينفق عن سعة، بل لعل بعض وزارات الاعلام العربية التي تشكو ضيق ذات اليد قد اخرجت قرشها الأبيض او اقتطعت من مرتبات موظفيها لكي توصل صوتها الى أقصى الأرض، حتى لو كانت إذاعاتها المحلية، مرئية او مسموعة، مهجورة وممجوجة لا يسمعها احد من مواطنيها المفسدين بحب القنوات العليا ومذيعات الدرجة الاولى اللواتي يمخرن بجمالهن الفاتن من فوق رؤوس السلاطين فيصلن الى عباد الله الصالحين ولو في صورة الطيف.
* * *
في لبنان كان الأمر أبسط بكثير: تعميم الأقل كلفة من البرامج والذي لا يخلو من الإثارة، خصوصا بالنسبة للمناطق المتعطشة الى الملامح النسائية الصريحة، بدءا بالشعر المطلق او المسرّح على طريقة »الليدي دي«، مرورا بالقَبة المفتوحة حتى منتصف الصدر، وصولا الى البنطال المفتوح الجنبات.
اما بالنسبة الى السياسة او الثقافة او السياسة الثقافية او الثقافة السياسية فالأمر أبسط من ذلك بكثير: تستضيف المحطة »نجماً« من أساطين الكلام، مع مذيعة جميلة القوام منمنمة تقاطيع الوجه، أنيقة الملبس، مزودة بمجموعة قنابل صوتية وأخرى دخانية ترميها بين الحين والآخر بين قدميه او من فوق رأسه، وتتركه يعارك الدخان او الصدى وقد اتسعت ابتسامة الشماتة: فهي الجاهلة والغبية والتي بالكاد تفك الحرف قد أوقعت الفارس عن حصانه وجعلته عبرة لمن يعتبر!
* * *
تأتيك الاتصالات من العواصم البعيدة: نريدك معنا في حوارنا المقبل.
ويمتد الحوار ساعتين او ثلاثا، وبضعة »مسؤولين« يتسمرون على السماعات او أمام الكاميرات، يقولون في الغالب الأعم كلاما مكررا ومعادا، ندر ان يتضمن موقفا جديدا او خطوة الى الأمام.
او تقرع بابك صبية حسناء باسم شبكة تلفزيونية عربية دولية، تريد من وقتك دقائق فحسب، لتطرح عليك سؤالا وحيدا..
تقرأ نص السؤال فتضطر الى تصحيح لغته،
ثم تسمع السؤال بصوتها فتضطر بنصحها ان تعيد قراءته بلا أخطاء، مما يدفعك الى تشكيل الكلمات،
ويضايقها تدخلك فتقرر ان تسجل لك وحدك، طالبة اليك ان تفترض ان هذا السؤال قد طرح عليك بالصيغة التي ترضيك ثم تجيب على سؤالك بنفسك!!
او يأتيك موفد متعجل من بلد عربي بعيد وقد غطس في عرقه، يريد من وقتك دقائق فقط لكي يسجل (عليك) شهادة حول مناسبة ما في بلده، مخاطبا »قوميتك« او صداقتك الشخصية« ورغبتك في مساعدته حتى يتمكن من إقناع حكومته بضرورة فتح مكتب في بيروت »عاصمة الكلمة العربية«… فاذا ما وافقت مترددا، اختفى »الموفد« وجاءت بدلا منه صاحبة قوام متناسق تستبق التسجيل بسؤالك عن المناسبة، وربما عن البلد الذي استأجرها موفده لكي تأتيه بشهادات التزكية لوطنيته او لقوميته او لانفتاحه الفكري!
* * *
جميل ان يحتل »العرب« بعض الفضاء، وان يتواصلوا عبره، بعدما عز عليهم التواصل بالكلمة المطبوعة كتابا كانت أم صحيفة بفضل »تسامح« الرقابات العربية وإيمان أنظمتها بالحرية!
وجميل ان يتبادلوا الرأي، وان يتناقشوا في بعض ما يحظر فيه الكلام على الارض، وان يهرِّبوا من فوق رؤوس الحكام بعض الأفكار الخطرة وبعض أحلامهم في غد أفضل.
لكنها جريمة ان نملأ مساحة التواصل بالتوافه والثرثرات الفارغة وبرامج الترفيه المتشابهة والمكررة والتي تروِّج لما دون المستوى من الكلام واللحن والغناء.
انها فرصة نادرة لنوع من التعاون على انتاج الأجمل والأبهى والأكثر فائدة.
ان رساميل هائلة موظفة في هذا القطاع الآخذ بالتوسع، كل ساعة، وهو قطاع مكلف بطبيعة الحال.
وبالتأكيد فان ثمة مواهب عربية ممتازة في التأليف والإخراج والتقديم، وهي مواهب مكسورة عادة بسبب شروط الرقابة والالتزام بعدم خرق المحظور،
بالمقابل فان فرصا ثمينة تعطى لمن لا يستحقها، فتهدر ساعات من البرامج التي كان يمكن ان تفيد، في ما لا طائل تحته، ويتم تحويل ما هو ثقافي الى »ترفيهي«، وما هو حوار سياسي الى مجادلات عقيمة تنتمي الى الماضي، وما هو استشرافي الى »تبصير« على طريقة قارئة الفنجان، وما هو استذكار واستعادة ما كان من وقائع وأحداث الى محاسبة متأخرة مع إسقاط الحاضر على الماضي او العكس.
اما الأدهى من هذا كله فهو خرق المحرمات والتوجه الى »العدو« ومحاورة رجالاته من دون قيد او شرط، فيبدأ الشريط بزعيم التطرف الاسرائيلي، وينتهي بهذا او ذاك من المسؤولين العرب، ولا حرج،
وحين ناقشنا احد المشاهير من مقدمي البرامج في بعض شبكات التلفزة العربية: كيف يسمح لنفسه بالجلوس الى نتنياهو والحديث اليه براحة تامة، بينما هو في موقع المحتل والمقاتل بل وقاتل إخوانه العرب، أجاب من دون ان ترمش عيناه: هذه وجهة نظر!
الوطنية وجهة نظر على الارض، وفي الفضاء أيضا،
أما الانحراف، سياسيا وثقافيا، فله السيادة كما على الفضاء وكذلك على الأرض،
فإلى أين المفر؟!
تحية لإدوار سعيد
كأننا نفضل مبدعينا أمواتاً،
ففي الغالب الأعم لا تنتبه حكوماتنا، ولا الاتحادات المهنية او النقابات، لتكريم المبدعين الا بعد ان يغادرونا.
بل اننا كثيرا ما نتأخر في اكتشاف المبدع منا والتعرف الى نتاجه، فلا نكاد ندركه الا وهو يلقي علينا تحية الوداع،
وفي مثل هذه الحالات فان أدب الرثاء يغلب فتتعذر مناقشة النتاج والمبدع، ويستحيل انتظام سجال نقدي لتجربته ووجوه تميزه وما أضافه من جديد، وما قصر دونه فلم يبلغ مقصده.
الأيام المقبلة ستشهد »اكتشاف« ادوار سعيد، الباحث والاستاذ والكاتب الذي عرفه العالم الناطق بالانكليزية قبل ان يعرفه العرب (أهله) بزمن طويل،
ولعل المصادفات قد عرفت الكثير من العرب الى ادوار سعيد ككاتب صحافي وصاحب رأي في تجربة التفاوض العربي (والفلسطيني خاصة) مع إسرائيل كعدو، بينما لم يعرفوه بالقدر الكافي من خلال سبقه المميز الى اعادة تفسير الاستشراق وفلسفته، بكل الاستنتاجات الخطيرة التي توصل اليها والتي غيرت العديد من المعطيات التي كانت في خانة »المسلمات«.
ادوار سعيد »عظيم من بلادنا« يستحق أولا ان يعرف، ان يناقش، ان تعمم آثاره على طلابنا، ان يدرسه الدارسون منا، ان يتعلم منه قادة الرأي والسياسيون،
بمثل ادوار سعيد يمكن ان تفكَّ كثير من العقد تجاه الاجنبي والثقافة الاجنبية، وان تصحح الوجهة فلا نظل أسرى عقدة النقص تجاه الآخر ولا نظل ننتظر شهادته لنعترف بمبدعينا.
تحية لإدوار سعيد الذي أعطى وطنه الكثير والذي أتاح لوطنه ان يعطيه أقل القليل.
أدخل في جرحك..
أدخل في جرحك فأرتاح لتوهمي اني قد اخذت عنك بعض ألمه.
ألملم شظايا تأوهاتك بشفتي فيتهافت عليهما النحل وتتساقط اوراق الورد المتروكة لسياط شمس الظهيرة والظمأ.
لو انك تأخذين من نياط القلب ضمادات لجرحك لهدأ الجرح وارتاح القلب.
كلما شدني اليأس الى عبابه امتشقت اسمك ولوحت به فانتثرت في جنبات الروح الرياحين والحساسين والوعود المضيئة بربيع جديد، وطافت الفراشات تبشر بالبعث وسقوط الموت.
أمشي اليك فلا أصل، يحجزني عنك ربيعك، وأبقى تحت مطر شتائي وحيدا،
تأخذك مني الشمس، فأحاول تسلق أشعتها حتى لا أغدو ظلا لغيري، ثم أحس بأنفاسك على عنقي فأطمئن الى انني في حرمك، وأننا لا بد ملتقيان،
وحين تهب عاصفتك أدخل في قلبها لأعود اليك واستعيدك.
ينفتح غضبك المقدس لحبي فتشع في الأفق نجمة لها بعض ملامحك، ثم تنداح في سهل القمر وعداً بغد أبهى.
من الكثير أشكو!
قال لي بشيء من الغضب المكتوم:
ما أكثر صخب النساء!
لا تتعايش المرأة مع الهدوء! نحبها صاخبة! ان هي لم تجد الصخب اخترعته، ابتدعته، استولدته من ذاتها.
تفرض عليك المرأة حالة استنفار مفتوح. انها هنا، فلتتوقف حركة التاريخ!
انها تريد للكل ان يروها، ان يغاروا منها، ان يحسدوها، ان يتآمروا عليها لكي يمنحوها فرصة انتصار. وانت مهم بقدر ما تحقق لها أغراضها هذه. انت الهدف والضحية ولا حصة لك في الجائزة!
أدركت انه تعرض، مرة اخرى، لنكسة عاطفية، فقلت معزيا:
غيرها كثير، فلماذا هذا الحزن على من لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة؟! قال: غيرها كثير؟! ولكني من هذا الكثير أشكو! لو ان لي واحدة لما هربت الى الكثير!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة الا الحب:
أتعرف ان حبيبي يطالعني كل صباح بوجه جديد؟
قبل ان أعلق عاد »نسمة« يقول:
أنت تفترض ان للبدر صورة واحدة. هذا غير صحيح. انك تراه بعينيك، وفي كل نظرة تكتشف فيه جديدا. انك ترى في صفحته ما تحب في وجه حبيبك. انك تعطيه الملامح التي تحب، فاذا نظرت الى حبيبك أعدت اليه ملامحه وقد توشت بنوره الشاحب كالهمس.
وجه حبيبي صفحة بدر تتلون بأنفاسي فتتكامل روعتها وتتجدد سعادتي، وأهتف بالناس ان أحبوا تسعدوا، وليتهم يسمعوني!