ماذا تستطيع »الماشطة« الديموقراطية مع وجه الدكتاتور؟!
وأي تجميل يمكن أن يخفي أو يطمس أو يموِّه الملامح الأصلية لوجه الطاغية؟
صدام حسين هو صدام حسين.
… حتى مع ثمانية ملايين »نعم« لحكم الحديد والنار، الاغتيال والقتل العلني، التجويع واستعداء الأب على أبنائه والزوجة على زوجها، التشريد والإذلال اليومي، جدع الأنوف والآذان ودفع الجبين بإهانات جارحة تبقى العمر كله،
صدام حسين هو صدام حسين،
لن يتبدّل ولن يتحوّل ولن يتغيّر عما عرفه العراقيون قبل سبع وعشرين سنة وحين وصل إلى السلطة متسللاً تحت شعارات الحزب المرفوعة فوق دبابة معادية للحزب والشعار الجميل،
الحب لا ينتزع بإرهاب السلاح،
والتزوير العلني المفضوح لن ينفع في تبييض السجل الأسود لهذا الفرد المتفرِّد الذي احتكر السلطة لنفسه وقتل كل مَن حاول أن يريحه من بعض أعبائها أو أن يشارك معه في تحمّل مسؤولياتها الجسيمة ولو بالرأي والمشورة الحسنة،
قبل الانتخاب، وملايين الأصوات التي ستملأ الصناديق زورù وتزويرù، كان صدام حسين قد نصب نفسه قائدù وزعيمù ونبيù، ملهمù ومعصومù، وأعطى نفسه أسماء ا” الحسنى جميعا مضيفا إليها صفات إنسانية رقيقة: فهو الأب الصالح لكل العراقيين، والزوج المثالي لكل العراقيات، وهو الطبيب والمهندس والمعلِّم وأخيرù: هو المؤمن والمؤتمَن على الدين الحنيف، إذ اكتشف فجأة أنه »سليل الحسين« وجعل »نسبه الشريف« بابù إجباريù لزوار العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكوفة إضافة إلى سامراء.
هل يتم تعيين أولياء ا” الصالحين بالانتخاب؟!
هو الدنيا والآخرة، إذن، فما قيمة الأصوات والاستفتاء والديموقراطية وكل تلك العمليات المعقدة التي تجرى لاستطلاع آراء الناس وقراءة أفكارهم وتحديد اتجاهاتهم وتياراتهم ومواقفهم من مختلف مسائل حياتهم؟!
* * *
لعله »امتياز« عربي أن يتحوَّل الانتخاب أو الاستفتاء الشعبي إلى مناسبة علنية للتشهير بالارادة الشعبية ومسخها وتحويلها إلى مجرّد حلية مزيفة أخرى مثل تلك الأوسمة والنياشين التي يزدحهم بها صدر الحاكم الفرد المهزوم في كل المعارك.. إلا مع شعبه؟!
وإلا فما حاجة صدام حسين إلى أصوات العراقيين طالما أنه يتحكَّم بأرواحهم ومصائرهم، فيحيي ويميت؟
وهل كان بحاجة إلى فضيحة إضافية، وعائلية هذه المرة، ليشعر بضرورة أن يعوِّضه العراقيون ابنتيه وصهريه وبعض حرسه الشخصي، فتعود إليه ثقته بنفسه ويقودهم إلى هزيمة جديدة؟!
ولماذا هذا الإذلال الإضافي لشعب محطوم الإرادة بالقهر اليومي، كسير القلب بأم الهزائم، يذله الفقر وتطحنه الحاجة فتضطره إلى بيع شرفه، وتدفع بأطفاله إلى البحث عما يقيم الأود في المزابل والنفايات؟..
أم أن الاستفتاء مناسبة للتثبت من »الموت النهائي« لمشاعر هذا الشعب الذي اشتهر عبر تاريخه بالإباء والأنفة وعزة النفس؟!
هل ضروري الاستفتاء الذي يؤكد حضور صدام وينفي حضور العراق؟!
إنه استفتاء الفراغ والرعب. إنه استفتاء الصمت المدوي.
وطريف هذا الاستفتاء بين وجوه صدام المتعددة: هل تختار صدام حسين المدني، أم العسكري؟! البدوي أم الفلاح؟! صدام الجنوب المنتهكة سيادته بالمظلة الأميركية، أم صدام الشمال الممزّق كرده بالفتنة الداخلية والحماية الأجنبية، وشلال الدم يكاد يقوم نهرù ثالثù في بلاد الرافدين؟!
* * *
يرضى القتيل وليس يرضى القاتل…
يسلّم شعب العراق بقدره، بعدما أنهكته المجازر والهزائم واجتثاث الطلائع، طلائع المثقفين والمفكِّرين والعلماء المبرزين، مدنيين وعسكريين، وطلائع المناضلين الحزبيين والطامحين العاملين من أجل غد أفضل، داخل حزب البعث أو الأحزاب القومية الأخرى أو التنظيمات الشيوعية أو الحركات الإسلامية،
لكن الحاكم يطلب أكثر…
فكل قائل بالغد الأفضل هو عدو يجب التخلّص منه،
الحاكم هو أمس واليوم وغدù.
هو التاريخ كله، لم يكن قبله أحد ولن يكون بعده أحد.
وهو الناس جميعù، يذوبون فيه فيختزلهم ويصيّرهم بشخصه مجتمعين،
هو الفكر لا الأفكار، وهو الشعر لا القصيدة ولا الشاعر، وهو العلم لا العالِم، وهو الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والذرة وفالقها الأعظم!
فما الحاجة إلى الأصوات والصناديق المحشوة بهذه الكلمة القميئة المكوّنة من أحرف ثلاثة حقيرة »نعم«؟!
لم تكن لها أية حاجة طوال سبع وعشرين سنة، فما الحاجة إليها في الزمان الآتي؟!
وهل تكفي مثل هذه الرشوة التافهة للحصول على بطاقة عضوية والانتماء إلى النظام العالمي الجديد؟!
هل ترفع »نعم« المزوّرة العقوبات عن شعب العراق العظيم؟! هل تجيئه بالخبز والدواء وحليب الأطفال؟!
هل تعيد إلى العراق وحدة أراضيه المشلّعة ووحدة شعبه المشرّد بين المقهر الداخلي والمنفى الخارجي؟!
هل تحمي عروبة العراق المسفوحة؟!
هل تحصن العراق في وجه الاجتياح الإسرائيلي القادم فوق حصان هاشمي أبيض؟!
ما أعظمها كلمة »لا«، وما أقدسها!
ما أروعها بابù إلى المستقبل، إلى الحياة،
ما أبهى أن تدوي في ما بين المحيط والخليج: لا، لا، لا، لا، لا، لا…
وفي انتظار ذلك اليوم البهي، ستتراكم الهزائم ولن تنفع في تمويهها أو التغطية عليها ملايين »نعم« المزورة والنافية للانتخاب والناس.