نشرت في جريدة “السفير” ضمن هوامش بتاريخ 27 آذار 1998
قال لي محمد حسنين هيكل وهو يردّد الاسم كأنما ليسمع وقعه على أذنه: السفير، السفير.. ليس مألوفاً كاسم لجريدة. السفير! هل تملك خياراً آخر؟!
عرضت أسماء ”امتيازات” أخرى كانت في التداول، فلاحظ -مثلي- أن لها شيئاً من الرنين الديني فقال: لعل السفير هو الأفضل، هيا، لنناقش المضمون..
استدرك بعد لحظات: في أي حال فالأمر يقرّره نجاح المهمة وليس اسم المأمور.. للوهلة الأولى سيكون صدى الاسم، طرافته أو غرابته، الفته أو وحشته، ثم بعد ذلك تنشأ العلاقة مع الدور وهل تؤديه المطبوعة أم لا. هل ستكون جريدة جيدة، بمعنى المصدر الممتاز للأخبار والمنتدى الثقافي وربما الفكري، وهل ستتصدى فتعالج بنجاح المشكلات الأساسية، سياسية واجتماعية؟!
وختم هيكل حواره بالقول: بعد الصدور لن يلعب الاسم بذاته أي دور. سيتحول من فكرة إلى معرفة، لكن المعرفة ستتصل بمضمونه وما يقوله لا بالاسم. ماذا تعني أسماء مطبوعات مثل ”آخر ساعة” أو ”روز اليوسف” أو ”الحوادث”؟! النجاح يحول الاسم إلى مرجع، أما الفشل فيأخذه إلى الفكاهة والتشنيع!
اذهب فانجح فيدوّي الاسم ويعود أليفاً ومحبباً، أما إذا فشلت فسيذهب اسمك مع الجريدة وليس اسم ”السفير” فحسب..
كان ذلك في أواخر صيف 1973، في القاهرة، ومحمد حسنين هيكل على قمة الجريدة الأهم والأكثر تطوراً في الوطن العربي، ”الأهرام”.
وكنت أدور على الأصدقاء والزملاء فيها استمدّ منهم العزم والشجاعة على الاندفاع في المغامرة التي كنت أمشي إليها مشبعاً بالأمل برغم وعيي أنها ستكون مكلفة وقاسية ومنهكة وقد أعجز عن الاستمرار فيها، بعد حين، أو عن تأمين التواصل لاندفاعتها الطموح.
سمعت الكثير من كلمات التشجيع، ولمست استعداداً عالياً للمساعدة.
انفتح أمامي كنز الصداقة على مصراعيه.. وخرج راحلنا الكبير أحمد بهاء الدين عن تحفظه ليقول إنه سيواكب المشروع بالنقد وإن تعذرت عليه المساهمة بالكتابة له وفيه.
احتشد ”العتاولة” في منزل بهجت عثمان، بالنيل: مصطفى الحسيني، حلمي التوني، مصطفى نبيل، راجي عناني، حسين عبد الرازق، جورج البهجوري، محيي الدين اللباد، علاء الديب الخ.
وفي كافتيريا ”الأهرام” عقد أكثر من ”اجتماع تحرير” حول الفكرة، وسمعت ما نفعني كثيراً من مكرم محمد أحمد وفهمي هويدي وإحسان بكر وحمدي فؤاد (رحمه الله) وسامي منصور.
وسمعت أيضاً نشيد الحماسة من أحمد عبد المعطي حجازي، مع كلام رصين وهادئ ومدقق في الأرقام من محمود المراغي، وأعلن سعد زغلول فؤاد ”الجهاد” من أجل ”السفير”.
أما في الصومعة الفكرية أو ”برج الأهرام” في الطابق السادس، حيث كان ”يقيم الراحلون الكبار توفيق الحكيم ولويس عوض والحسين فوزي وصلاح عبد الصبور، فقد اشتد الجدل حول العروبة والقومية ومصر المصرية، وحول دور لبنان واللبنانيين التأسيسي في الصحافة المصرية، ونبهوني من خطر العاطفة على الموقف السياسي، كما أكدوا على الموضوعية والديموقراطية وحق الآخرين في الاختلاف وضرورة أن تنفتح صفحات ”السفير” لمن يرى غير رأيها..
وفي منزل طارق البشري وزوجته الزميلة عايدة العزب موسى ارتقى الحديث إلى آفاق الثقافة والدور الفكري للصحافة العربية عموماً، وحام فوقنا السؤال: هل تستطيع ”السفير” أن تقدم إضافة؟!
وقال أحمد فؤاد نجم للشيخ إمام: اسمع آخر نكتة.. طلال اشترى ”السفير”!
وضحك ”عم إمام” وهو يقول: بركاتك يا سيدي طلال… بس على الله يكون السفير ده غني مش فقري زي حالاتنا!
في دمشق تلاقينا زمراً: مرة في منزل فيصل حوراني في الروضة، ومرات في منزل حسين العودات في المهاجرين، مباشرة عند سفح قاسيون. سعد الله ونوس كان النجم، نتكوكب حوله ونتوغل معه داخل الحلم إلى أن تنبّهني الروح العلمية لياسين شكر أو المنحى النقدي لحميد مرعي.
كان للمغامرة جمهورها العريض، وأخاف أن أمضي في تعداد الأسماء فأسهو عن بعضهم، لكنهم كانوا كثيرين، يناقشون أمور مشروعهم.. جريدتهم!
أما في بيروت فالذين شاركوا في المناقشات التمهيدية ثم في بلورة الفكرة، ثم في إنضاج التصور، ثم في تمزيق ”الماكيت” الأول والثاني والعاشر فهم كُثُر، وأنا إذ أستذكر أسماء البعض منهم فاعترافاً بالفضل وليس للتشهير بهم وتحميلهم المسؤولية التي ارتكبت في ما بعد والمتمثلة في هذه الصحيفة التي بين يديك، والتي استهلت أمس عامها الخامس والعشرين.
محسن إبراهيم في الطليعة، ليس فقط لأنه كان رئيس تحريري في ”الحرية”، بل لأنه أكفأ رسام كاريكاتوري شفوي عرفته ولأنه ”مشع” ويستطيع تحويل العادي إلى ممتاز وبالعكس.. وكريم مروة لأنه يستطيع أن يكون نزيهاً في أحكامه حتى وهو يسمع منك نقداً قاسياً لحزبه وللشيوعية (وهو القيّم على وصية كارل ماركس ولينين.. واندروبوف).. ومنح الصلح لأنه ”النقاد” بامتياز، يظهر لك الوجه الحسن للفكرة، فإذا ما هدأ روعك باغتك بـ”ولكن” الشهيرة فإذا أنت توشك على التبرؤ منها، وهنا يعيد إليك التوازن بصك جملة تذهب شعاراً أو نكتة قد تنفعك في الدعاية.. واستطراداً، كلوفيس مقصود لأنه يسكن داخل ”ولكن” المنحية، يتلقى منه ثم يرد، وحين تبلغ المباراة ذروتها يكلفسها مقصود ويختمها منح ”بصلحية” فإذا الأمر تمّ! وشفيق الحوت الذي تتلمذت عليه ومعه في ”الحوادث” التي كانت ”المجلة العربية” في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات.
أمدني الدكتور جورج حبش بجرعة من إيمانه، وعزز يقيني نايف حواتمة بفذلكة مطوّلة حمّلني فيها المسؤولية عن الكون الذي يحرّكه تمهيداً لأن يقوده غداً، ولم أستعد توازني إلا بعد جلسة صفاء تداخلت فيها الأحلام مع الأرقام مع غسان كنفاني.
أمام كمال جنبلاط شعرت بالرهبة، ودخلت امتحاناً صعباً في مواجهة أسئلته البسيطة. ولكنني حين خرجت من لدنه وقد وعد بمساعدتي كنت أستشعر في نفسي قوة تكفي لمواجهة الدنيا.
كتبت وكتب إليّ العديد من الأصدقاء، وإذا كنت لا أملك أن أكشف أسماء الأحياء ممن شجعوني في العراق واليمن والسودان، فلا بد من تحية للراحلين المتميزين الذين وضعوا لمساتهم على صورة ”السفير” الأولى وبينهم: عبد الخالق محجوب، محمد أحمد محجوب، الشفيع أحمد الشيخ.
محمود درويش كان الأصرح. صرخ بي: أنت مجنون! احم حريتك! غداً متى صرت رب عمل ستغرق في هموم لا تستطيع حملها فتخسر حتى قلمك.
لكنه من بعد، جاء إلى ”السفير” فعزز انتماءها إلى أهلها وإلى قضيتها.
أما العاقل الوحيد الذي نصحني فكان عبد القادر غوقة، وكان يومئذ سفيراً لليبيا في بيروت.. قال لي: اسمع مني ودعك من السياسة والصحافة السياسية! أصدر مجلة فنية فتحقق نجاحاً مثلثاً، إذ تغدو المؤتمن على أسرار الزعماء والرؤساء والكبراء، وتبيع كميات خرافية فتجني أرباحاً مادية مؤكدة، وتمضي حياتك متقلباً بين العطر والجمال والنكتة، لا هموم ولا نكد ولا متاعب ولا منع دخول إلى هذا البلد أو ذاك!
من الكويت وصلني تشجيع معزز شارك في إطلاقه الدكتور أحمد الخطيب وعبد الله النيباري وسامي المنيس وآخرون.
ومن الجزيرة والخليج، من طرابلس الغرب ومن تونس ومن الجزائر ومن المغرب وصلتنا رسائل عديدة تحدد لنا مطالب أولئك الذين لا يستطيعون دائماً أن يعبّروا عن آرائهم حيث هم. لقد ندبونا لتحقيق مهماتهم من على البعد.
كان الحلم وهاجاً وعريضاً..
في المقهى البحري بمنطقة الروشة تلاقينا مجموعة من الحالمين.
تجنّبنا الشبهة السياحية فابتعدنا عن ”الدولتشي فيتا” البعثية، وعن ”الدبلومات” القومي العربي، واخترنا أرضاً محايدة..
وطافت الشعارات على الطاولة كزوارق من ورق..
كنا مسكونين بآمال الناس، بآلامهم، بهموم حياتهم اليومية، بطموحاتهم إلى إعادة صياغة الحياة فوق الأرض..
وكنا قد خبرنا المهنة كفاية لنعرف أن الصحافيين مهما فعلوا فسيظلون مقصّرين، لأن ما يستحق النقد والتصحيح وإعادة البناء، أو الإكمال، أو التجديد واكتساب المعنى، أكثر من أن يحصى، وأخطر من أن يقوموا هم وحدهم به، مع أن وجودهم في ”الواجهة” يلزمهم..
كانت أفكارنا أعظم وأغزر وأكثر بما لا يقاس من قروشنا. ولو أن الأفكار أو الأحلام تباع (نقداً وبالتقسيط) لعجزنا عن ”اقتناء” ما يكفينا منها.. لكن رؤوسنا لم تكن خالية تماماً، كما أن إيماننا بأنفسنا وما نستطيعه كان عظيماً.
هتف واحد منا: ليكن شعارنا ”صوت مَن لا صوت له.. إنما نريد أن نعبّر عما في صدور الآخرين لما لا يملكون أو لا يقدرون أن يقولوا! ما أكثر الذين لا صوت لهم، أو أن أصواتهم خافتة أو مكبوتة لا تصل.. ”
صحّح آخر: فليكن شعاراً بصيغة الجمع إذاً: صوت مَن لا صوت لهم.
وتدخلت اللغة بلسان أفصحنا: بل فليكن ”صوت الذين لا صوت لهم”…
تساءل رابع: هل من جريدة تستطيع حمل مثل هذا الادّعاء في صدرها. إن هذا الشعار سيعرّضنا لمحاسبة يومية قاسية.
نظر إليّ الخامس فقال: صوتك منخفض، وأقرب إلى الهمس، دائماً، فكيف ستكون صوت هذه الملايين المغيّبة والمكتومة أصواتها..
طلبنا قهوة جديدة، وغرقنا في تأمل صورة العدد الأول..
.. وهي صورة لما تكتمل حتى اليوم.