كان صعباً، من القراءة الأولى، تصديق ما نقلته وكالات الأنباء الدولية منسوباً إلى الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا حول الأحداث المترابطة في نهر البارد والهجوم على الوحدة الإسبانية في اليونيفيل في جنوب لبنان ومعارك قطاع غزة ، مستنتجاً أن سوريا وإيران تقفان خلف هذه الأحداث المترابطة .
ومع القراءة الثانية كان ضرورياً إعادة التدقيق في النصوص التي نقلتها الوكالات بأكثر من لغة، إذ لا يعقل أن يكون مسؤول دولي رفيع المستوى، عريق في العمل السياسي ومن ثم الدبلوماسي مثل سولانا، متسرعاً في استنتاجاته، متهوراً في أحكامه التي تتضمن اتهامات خطيرة جداً لدول يعرفها جيداً، وإن كان غير معجب بسياساتها ومواقفها من كثير من الأحداث الإقليمية أو الدولية.
مع القراءة الثالثة تحوّل عدم التصديق إلى رفض لهذه الخفة في التعامل مع شؤون بلادنا، ورفض هذا التسرّع في توجيه الاتهام، الذي كاد يصل إلى حد الإدانة المسبقة، من قبل أن يعرف سولانا نتائج التحقيق الذي يقترب الآن من خاتمته (كما يشير الخبر المنشور في رأس هذه الصفحة).
لا الدولة في لبنان، ولا قيادة اليونيفيل في ما يخصها، ولا الأمم المتحدة عبر أمينها العام المتفرغ لمراقبة الحدود اللبنانية السورية، توصلوا إلى مثل الحكم المبرم الذي أصدره خافيير سولانا من على بُعد آلاف الأميال عن شمال لبنان وجنوبه: كل ذلك مترابط. لم يحصل نتيجة حادث أو بأعجوبة.. ربما كان مدبراً ! إلى هنا والكلام طبيعي ومقبول.
لكن سولانا يمضي إلى البعيد فيضيف: سيكون من الصعب أن نفهم الأمر من دون أن نرى وقوف لاعبين مهمين آخرين في المنطقة موضحاً أن وراء الأمرين قوى إقليمية، من بينها سوريا وإيران !
ما هذه الحيدة؟ ما هذه النزاهة؟ ما هذه الدقة في الأحكام حتى من قبل أن ينتهي التحقيق، سواء بجانبه المحلي، أم بجانبه الدولي؟! وكيف يسمح مسؤول أوروبي (وإسباني بالذات، أي من أهل الضحايا) لنفسه بإصدار أحكام قاطعة استناداً إلى استنتاج شخصي، وإلى تقدير متسرّع، وإلى تغليب غرضه السياسي على الوقائع والأدلة الجاري فحصها لتحديد الجهة أو الجهات مرتكبة هذه الجرائم؟!
لقد ناب سولانا عن القضاء وسائر الجهات الرسمية (وفيها من هم أصدقاء له، يشاركونه عواطفه الحارة تجاه سوريا وإيران… وبينهم رئيس الحكومة البتراء الذي ذهب إلى إسبانيا ليعزي بالجنود الضحايا) … ناب عن الجميع في لبنان (وخارجه!!) في توجيه الاتهام إلى دول حدّدها، في المسؤولية عن أحداث مخيم نهر البارد، (حيث لا جنود دوليين بينهم إسبان)!
في حين أنه لم تصدر عن أية جهة رسمية في بيروت، حتى الساعة، ما يجزم بمسؤولية دولة بالذات عن هذه الأحداث..
وحتى بعض الأطراف السياسية المعادية لسوريا وإيران، والتي دأبت على اتهامهما بالمسؤولية عن كل جريمة وقعت، لم تصل إلى حد القطع بعلاقة جدية وعضوية لهاتين الدولتين مع فتح الإسلام تحديداً… وحتى الاتهام الذي وُجّه، جزافاً، إلى واحدة من هاتين الدولتين يسقط فوراً بدليل أن جثث المقتولين من مجندي فتح الإسلام في المخيم قد كشفت أنهم ينتمون إلى دول شتى، تزاحمت على طلب التحقيقات والأجداث معاً (ومن أمكن أو سيمكن توقيفه من الإرهابيين أحياء).
ثم ما الرابط بين هاتين الجريمتين الفظيعتين اللتين نفذتا في لبنان، الأولى ضد الجيش وضد مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في الشمال، والثانية ضد قوات اليونيفيل (وضد الكتيبة الإسبانية تحديداً) في أقصى الجنوب، وفي مرمى نظر الجنود الإسرائيليين على الضفة الأخرى من الحدود، وبين ما وقع في غزة وبمعزل عن مسؤولية كل من حماس وفتح عن الأحداث المأساوية التي وقعت فيها.
لقد تعرّض لبنان (بجيشه وشعبه) كما اللاجئون الفلسطينيون في مخيم نهر البارد إلى عملية إرهابية هائلة بكلفتها الدموية والمادية وبآثارها السياسية، وأعلنت جهة أصولية محددة تحمل اسم فتح الإسلام مسؤوليتها عنها..
كما تعرّض لبنان (بشعبه ودولته) كما الجنود الإسبان في قوات اليونيفيل إلى عملية إرهابية هزت وجدان مواطنيه جميعاً وجعلتهم في حداد على هؤلاء الجنود الذين ارتضوا أن يأتوا ليكونوا معهم، في مواجهة الخطر الإسرائيلي، والتحقيق يقترب من كشف حقيقة الجناة وهويتهم السياسية ..
هذه وقائع قاسية بتأثيرها على لبنان،
وهي عمليات إرهابية تستهدفه في أمنه، وفي استقراره، وفي المحاولات المبذولة لتوطيد وحدته الوطنية بحكم قادر ومؤهل على إنجاز هذه المهمة الحيوية والتي لا تحتمل التأخير.
ولا تساعد الاستنتاجات أو التقديرات التي تسرّع خافيير سولانا فجعلها أحكاماً قاطعة، وهذا ليس من حقه فضلاً عن أنه ليس من واجباته المهنية أو حتى السياسية… إلا إذا كان يقصد لا سمح الله! أن يغرق أبناء لبنان في أزمتهم الخانقة التي يسعى كثيرون إلى تفجيرها على شكل فتنة أو حرب أهلية تذهب بلبنان الدولة بعد تدمير وحدة شعبه.
ومن حق الدولة، بل ومن مسؤولياتها أن تعترض، بأشد لهجة وربما بأقسى تصرف دبلوماسي ممكن، على تصريحات سولانا هذه، إذا هو لم يبادر إلى توضيح مقاصده (الفعلية) منها، بعد الاعتذار عمّا لن يمحوه الاعتذار، وإن كان قد ينفع في تلطيف الآثار المترتبة على هذا التصرف الأخرق.