وقفت على الباب وبين قدميها كلب ينظر ناحيتي سعيدا ومتخابثا. قدمت نفسها بتواضع محمود. اسمها كقسمات وجهها لا يكشف عن حالتها الاجتماعية. شعرت من نظرات تجاوزتني أنها تتمنى لو أذنت لها وكلبها بالدخول. دخلت وجلست وما زال الكلب بين قدميها وعيناها تتجولان في أنحاء المكان بينما استقرت عينا الكلب على وجهي في اجتهاد واضح لقراءة ما يتوجب قراءته. هدأت جهود الاستكشاف واستقر تركيز الضيفين، أقصد جارتي وكلبها، على شخصي وعادت تكمل ما كانت بدأت به عند الباب. قالت، “أبلغتني الإدارة أن حضرتك كنت بين عدد من السكان تقدموا بشكوى ضد هذا الكلب الطيب والوديع، وعلى أثر تلقي البلاغ قررت المجئ بنفسي لمناقشة الأمر وأمور أخرى معك”.
الجارة وأنا وصلنا إلى هذا المكان ضمن عدد كبير من سكان العاصمة “القديمة” قرروا الانتقال مؤقتا إلى حي جديد بمواصفات معينة، كل منا لسبب أو لظرف يخصه. يعود قراري إلى الصعوبة المتزايدة في الحصول على حيز مناسب من الهدوء للعمل في الليل كما في النهار ويعود قرارها إلى صعوبة أيضا متزايدة في الحصول على حيز مناسب من هواء نظيف للتنفس أثناء النوم كما في خلال السعي طول اليوم وراء الرزق أو المتعة على حد سواء. كلانا ضاقت به السبل لعيش مريح وصحي حيث كنا نعيش، وكلانا لم يجد التعويض المناسب عن منغصات أخرى، وهذه الأخيرة كانت ستصحبنا على كل حال من حيث كنا إلى حيث تستقر النوايا. عرفت منها كذلك أنها سبقتني بعدة شهور إلى تنفيذ عملية الانتقال ووجدت حينئذ من يزودها بإرشادات كان من بينها النصيحة باصطحاب كلب.
اشتكت من جيران في العاصمة القديمة جعلوا من كل طابق في البناية مقلبا للنفاية. اشتكت من بائع الخضراوات الذي توقف عن إرسال ابنته كل صباح لتتلقى من السكان طلباتهم ثم تعود إليهم بها. اشتكت من أصحاب البناية الذين قرروا إغلاق منافذ المصعد في كافة الطوابق من دون استشارة أحد من السكان. اشتكت من أهلها وكانوا في سن الشباب حين اختاروا هذه البناية سكنا. لم يحسبوا حساب زمن غدار ودرجات سلالم سرعان ما تواطأت مع غدر الزمن. هذا التواطؤ جعل الصعود لكبار السن جهادا والنزول إرهابا. ختمت بالقول “نعم تمردنا على مدينتنا. يحكون عن ماضيها عجبا. لا أصدقهم. إن صدقتهم أدبا واحتراما أكون قد تجنيت على شعب أحال الجنة التي تغنوا بجمالها وأناقتها إلى ذكريات أليمة أو كريهة سجلت نفسها على جدران بالية وأرصفة ممحاة”.
جاء دوري في الكلام. لا أذكر كيف جاء ولكنه جاء. قلت لها ولكلبها “أنا أكتب فأنا حر فأنا أعيش. في عالمنا يتآمرون ضد من يكتب. أنا واحد من ملايين تعرضت أقلامهم للقصف. قصفوا أقلامي عندما حلت الصفحة الالكترونية محل ورقة تعلمت على سطورها حروف الأبجدية وأسلوب التعامل معها. غاب القلم فغابت أو تغيرت صلاحيات ليست قليلة. مثلا لا أكثر، تخلفت خطوط الكتابة عندي. صرنا، مساعدتي وأنا، نجد صعوبة في قراءة ما أكتب بقلم مقصوف. حزنت أنا، وتمردت الإنسانة التي رافقتني في مكتبي سنينَ. اختفت الأقلام، أو كادت تختفي، ولم يتوقف القصف. حتى العلماء وعباقرة التكنولوجيا الرقمية في الصين كما في معاقل الحريات في الغرب اشتركوا في القصف. يطلون علينا من فوق أكتافنا ليقصفوا الكلمات. غيرهم فشل في قصف الفكرة قبل أن تصير كلمة. حتى أصدقائي والمقربون مني تدربوا على القصف الرخو، قصف ناعم مزود بأطيب النوايا، قصفهم نصائح وإرشادات وتوصيات لا تضر ولا تنفع.
تعددت أدوات قصف أفكارنا ثم حروفنا. لم ينقصنا إلا نباح كلب، ها هو يجلس أمامي بين قدمي صاحبته وديعا طيبا، في عينيه لمعان التحدي وعلى لسانه بهجة الانتصار. أظن أنه فخور بعدد الأفكار التي قصفها فلم تجد طريقها إلى أي قلم أو فضاء أو حياة. كلبك يا سيدتي، هذا الطيب الوديع المتمسح بقدميك حتى ساقيك، يقمعني ويعذبني”.
“سيدتي، أنا لا أعرف من مواصفات الجنة الموعودين بها إلا ما أبلغنا به في الكتب وأحاديث الرسل وخرافات المزينين. كلها مكافآت مبروكة ومبهرة ومشوقة. أنا شخصيا أتمنى أن يكون في الجنة السكون الذي أتصوره مكافأة مستحقة لكل الذين سكنوا المدن وتعرضوا لبعض أو كل ما تعرضنا له من ضوضاء وصخب وفوضى سمعية. بودي أن أعرب عن استعدادي التنازل عن بعض النعم الأكثر روعة من كل حقيقة عرفناها أو أسطورة تخيلناها مقابل كل السكون الممكن، سكون في الجنة بلا قيود أو حدود. السكون الذي أقصده هو ذلك الذي يجعلني في وجوده أنصت مستمتعا لصوت منبعث من زجاجة صودا فتحت للتو، صوت “الفوران”. السكون حالة بيئية وحالة نفسية. أمس وفي لحظة سكون تلاطمت السحب فوق سطح بيتي حتى رعدت. أصدقك القول إنني خلال اللحظة تخيلت أنني أسمع زغاريد امرأة بدت لي تسكن سحابة بعينها. في اللحظة نفسها وصلتني أصوات ارتطام حبات المطر بزجاج غرفتي كتغاريد طيور تتسابق لإمتاعي بأحلى ألحانها”.
“أيتها الجارة العزيزة، سمعت أنك وعدت بتدريب كلبك ليستحق مكانا في مجتمع متحضر ومتعدد أنواع المخلوقات. كل ما أطلبه منك هو وعد بتدريبه على إتقان التواصل بالهمس ليس فقط مع بني نوعه بل مع كل الأنواع. رأيتكما تتهامسان، هل أطمع في تعميم الهمس ليصبح وسيلة اتصال وحيدة بين كلاب الحي وأداة تعبير عن الرأي والرغبة والحاجة. هكذا لا نخسر السكون ولا تخسرون كلابكم”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق