مات أحمد بهاء الدين.
أقسى من موت هذا القلم المضيء، كاتب هذا الزمان، ما كشفه موته من غربتنا عن انفسنا وعن احلامنا، وعن قدراتنا.
فجأة يدهمك الشعور بأنك قد صرت غريباً، لا تعرف الناس ولا يعرفونك.
كانت القاهرة في بيروت، وكانت صنعاء ملتصقة بالجزائر، وكانت دمشق متداخلة وطرابلس، وكانت عدن في الرباط:
كنا نحس بدفء القرب ونستمد من إيماننا بوحدة القضية القوة والتصميم. وفي السفر كنا نتعجل الوصول الى أهلنا في عواصمنا البعيدة.
وعلى بعد المسافة كنا نشعر بأننا واحد، همّنا واحد، ومصدر الفرح واحد، وأننا نمشي في اتجاه التلاقي فوق ارض الحلم الواحد.
اليوم نحس كأننا آحاد مبعثرة على امتداد هذا العالم العربي الذي نضب معين أحلامه، او امتصها اليأس، فزاد من غربتنا.
أقسى ما صدمنا مع خبر الوفاة »الاكتشاف« الممض بأن قلة من العاملين في الصحافة الآن، ومحترفي الكتابة، يعرفون من هو أحمد بهاء الدين.
ليس المرض وحده السبب.
لقد قطعوا أوصالنا فبات واحدنا يعيش غربته وحده، ويموت في غربته وحده.
لقد اتسعت الارض وضاقت مساحة الأمل والعمل، فإذا نحن شهود على زمن مضى وأحلام مستهلكة!
الغربة بنت شرعية للهزيمة.
قبل الهزيمة كنا أشقاء حتى من قبل التعارف.
أخذتنا الهزيمة الى زنزانات، ومنعت علينا الاختلاط او الاشتراك في موقف، بذريعة الخصوصية وأن على كل منا ان ينجز معركته منفرداً، ثم يكون اللقاء.
كيف السبيل الى قهر الغربة؟
كيف السبيل الى الانتصار على هذا الموت؟
كيف نحفظ في عيون اطفالنا اسم احمد بهاء الدين؟
الكبير هو من أشرك في كِبَره الموهوبين ففتح لهم الطريق لأن يعطوا الأقصى مما يختزنون او يتقنون. هو من أحب المبدع فحرّضه لكي يعطي الناس أكثر.
وأحمد بهاء الدين أعطى الجميع الحافز لكي يتحولوا من منتجين متميزين الى مبدعين أصحاب قضية.
في جيل كامل من الكُتّاب والرسامين والروائيين والمسرحيين والممثلين، تقرأ صورة احمد بهاء الدين في عيونهم كما في إنتاجهم.
في صلاح جاهين، في بهجت عثمان، في الليثي، في اللباد، في حجازي، في هبة وفي العشرات من مطوّري فن الكاريكاتور خاصة والرسم إجمالاً ممن خرّجتهم مجلة »صباح الخير«، تلمح طيف أحمد بهاء الدين.
وفي مصطفى نبيل ويوسف القعيد وفتحي غانم وصالح مرسي وفهمي هويدي وكمال سعد، كما في جيل كامل من الكُتّاب الصحافيين تلمس أثر »بهاء« تحريضاً ومطالبة بالأكمل.
أما في أحمد بهاء الدين نفسه فكنت تلمح طيف »ديزي« الحبيبة والزوجة والزميلة، ومعها ليلى وزياد.
حكاية واحدة عن ديزي:
يوم أصدر السادات أوامره الدكتاتورية بسجن مجموعة كبرى من الصحافيين وبمنع مجموعة اخرى من المبدعين في مصر عن الكتابة، عاد احمد بهاء الدين الى بيته مهموماً، مكسوراً، يائساً الى حد الاستسلام.
لقد كسر الفرعون قلم المصري الفصيح.
لكن »ديزي« رفضت الاستسلام، فصاحت بزوجها المتهالك:
وأنت؟! أنسيت مَن انت؟! انك اكبر منه وأبقى منه وأقرب الى ضمائر الناس وقلوبهم منه.. هيا الى قلمك ولا تنسَ يوماً أنك احمد بهاء الدين!
.. ونحن الذين تعلمنا الكثير من »بهاء« لن ننساه ابداً، ولن ننسى معه المثلث الحبيب: ديزي وزياد وليلى.
حوار الجدران
قال الجدار للجدار: لماذا لا يرفعون عنا أثقال الذين انسحبوا؟!
رد الجدار على الجدار: مَن دفع الثمن يريد ان يسترده من سمعة من قبض!
* * *
قال الجدار للجدار: كيف ائتلفوا وكان واحدهم ينظر هنا شزراً الى الآخر، ويبرر نفسه بكونه نقيض الآخر؟
رد الجدار على الجدار: السياسة هي تلاقح النقيض بالنقيض. السياسة هي ان تعانق الآخر لتخنقه!
* * *
قال الجدار للجدار: اسمع كثيرين ممن على ظهري يشكون خيانة الأصدقاء ورفاق السلاح.
رد الجدار على الجدار: متى كانت الخيانة جماعية صار اسمها باللبنانية »الشاطر ما مات«.. ولأنهم كلهم شُطّار فليس في الأمر خيانة بل خيبات للأبطأ او الأغبى.
* * *
قال الجدار للجدار: مَن غدر بمن؟ كل صورة هنا تتهم الأخرى!
رد الجدار على الجدار: انظر خلف الصورة ترَ الخناجر، وعليها جميعاً آثار دماء!
* * *
قال الجدار للجدار: الحمد لله انهم لا يعلقون النتائج أيضاً على ظهرنا.
رد الجدار على الجدار: هذا لا يبرئنا من تهمة التزوير. لقد حملنا ألقاباً وشعارات وصوراً زائفة حتى بتنا شركاء في الجريمة، ولو بصمتنا الأبدي.
* * *
قال الجدار للجدار: سمعت بعضهم يصفنا بأننا معرض للديموقراطية.
رد الجدار على الجدار: بائس مَن يكتفي بوجه واحد للصورة، ولا يدور لكي يكتشف ما خلفها.
* * *
قال الجدار للجدار: سمعت مَن يقول ان اصدقاءه جميعهم هنا.
رد الجدار على الجدار: مسكين هذا الرجل، سيخسر اصدقاءه مع إعلان النتائج، من فاز سينكره متطلعاً الى قمة السلطة، ومن رسب سيتهمه بأنه قصّر فلم يساعده وأسهم في إفقاده فرصة النجاح.. الذي كان مضموناً لو صدق الاصدقاء!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لا يعرف مهنة إلاّ الحب:
يقولون إن الحب أعمى! هذا ظلم فظيع. الحب نور، لكن المحب أعمى، أحياناً. إنه يأخذ حبه الى الزاوية ليحجبه عن الناس فيعميه الوهج المحبوس بين الجفن والحدقة.
وقال لي »نسمة« بلهجة الخبير:
الحب مُتعب! انه يدفعك دائماً الى فوق. انه يجعلك أقوى وأقدر على الاقتحام. لكن البعض يفضّلون النزول في المحطة القريبة.
ضحك نسمة وأضاف:
كثير ممن يجدون أنفسهم في المصعد يفضلون ان يستخدموه للهبوط!
قرأ عليّ »نسمة« سطوراً من رسالة لم اعرف أهي منه إليها ام هي منها إليه:
»يأخذني اليك اللون الأرزق، أراك ملء الأفق ويجتمع سطح البحر في طيفك فيشف ويرق ويكتسب لون عينيك.
يأخذني اليك اللون الأخضر، أراك في كل بقاع الخصب والرواء.
يأخذني إليك اللون الأصفر، أراك في القمح الذي له لون الفلاحين.
تجتمع فيك الألوان والمنى فتجعلك قوس قزح معلقاً على رفة جناح، وأنا اختزل عمري في عيني لكي أراك.
ما اجمل دنيا انت فيها«.
صدى الحنين
مثل نجمتين..
اتسعت مساحة البعد ولم ينقص الحب.
لعل الحب أعظم الآن، ليعوض الحب المسافة.
مثل مصباحين هامسين، يعدنا الضوء الخافت الذي يصلنا منهما بنهارات بهية تضج فرحاً وإنجازاً.
مثل نجمتين..
ونحن على طرفي الأفق نغزل أحلامنا طريقاً الى العيد.
***
لو أنك استبقيت شيئاً من الحب لنفسك لبقيت فيك.
لو تقهرين هذا الجفاف بقليل من الحب لصرتِ اجمل.
يذهب مع الحب الجمال..
هلاّ استعدتِ ابتسامتك، انني فيها.
***
أشتاقك.
موعدنا خلف العذاب وقبل الوجع بقليل.
نسيتِ ساعتي، هلاّ ذكرتني باسمي؟!
الحياة جمع لا مفرد
تهربين الى الصمت، ويهرب مني الحزن، وليس بين أبكمين مستوحدين فرصة لحوار.
الحب ثرثار في الغياب، والحزن ثقيل يلغي الحضور.
يستولد البعد البعد، ويلغي القرب القرب، وتجيء الغربة بخفافيش الاوهام وخيبات الزمن الموؤود.
أتمزق في نقاشي مع افكاري خوفاً عليك من ان تسمعيه، وأحسك تكتمين أفكارك حتى لا ينشأ النقاش ويضطرك الى تحديد موقفك من نفسك.
لا يصل من تندفع قدماه الى أمام في حين تتعلق عيناه بما خلفه. ولا ينجح المتعلق بفكرة ثابتة وكأنها خشبة الخلاص، يخاف ان يتركها فيضيع وينسى انه آخذ بالغرق داخل جموده.
لا الحب زنزانة انفرادية، ولا الحياة مجموعة من الخيبات والطموحات المكسورة بالعجز.
لا يجدي الهرب، ولا يحل الأزمة الدوران في حلقة مفرغة يسلّمنا طرفها الاول الى الطرف الاخير وليس بينهما فارق او مسافة تسمح بالتمييز او باكتشاف باب النجاة.
أين الماضي في المستقبل؟
أين المستقبل في الحاضر؟
أين الأمل من القدرة؟!
ليس الخارج حلاً لمن يلغي داخله، او يغوص في داخله فينسى »كل« الخارج، ويتجاهله حتى يصدمه فيرتد الى موقع الضحية ثم تأخذه الحسرة الى المكابرة وهذه الى الكراهية ونبذ الآخرين.
لا أحد يمكنه اختزال الحياة في شخصه.
والحياة ليست وحيدة الجانب بل هي أغنى من ان نتمكن من أخذ كل ما تعرضه علينا إذا ما أجلنا عينينا في جنباتها الواسعة وفي الخيارات غير المحدودة التي تتحدى كفاءتنا.
الحياة جمع لا مفرد.
الحياة الناس. هل أغنى من الناس وأعظم تنوعاً في المشاعر والمطامح، في العواطف والمصالح؟!
بعض الناس يسجن نفسه في بيئة مغلقة، لا يلتقي فيها إلا من يرغب في لقائهم او من يرتاح معهم. لكن هؤلاء ليسو إلاّ عيّنة واحدة من ملايين العيّنات.
ليست الحياة لعبة سخيفة، وليست الدنيا ملعباً مفتوحاً لأمزجة الهواة.
ليست الحياة متعة متصلة، وليست الدنيا جحيماً.
الحياة تتسع لأبنائها جميعاً، تعطيهم بقدر ما يستطيعون ان يأخذوا.
لكن البداية قرارهم ان يمسكوا حياتهم بأيديهم، ان يتدخلوا في اعادة صنع دنياهم بقدراتهم.
ليس التذمر أفضل اسلوب للحياة، وليست الشكوى من الآخرين أقصر طريق الى السعادة.
مع الحياة لا تجوز الاستقالة، ولا هي تفيد.
حياتنا هي نحن. وأسعد الناس من ترك بصماته على مداها الفسيح كأوسع ما يمتد خيال وأعلى ما يطاله جناح.