ينام اللبنانيون على فضيحة ويستفيقون على فضائح، ويضطرهم زمانهم إلى التعايش مع الغلط وكأنه القدر الذي لا رادّ له.
صارت الفضيحة خبزهم اليومي وطاولت مختلف مجالات حياتهم: في السياسة كما في الإدارة، في الحكم كما خارج ناديه المذهّب، في القطاع العام كما في القطاع الخاص، في دنيا التلزيمات والمقاولات وصفقاتها التي تعقد غب الطلب لترضي العاتبين أو »المغبونين« في المواقع أو في المنافع إلخ..
.. حتى القضاء والمؤسسة العسكرية ومعها الأجهزة الأمنية لم تعد فوق الشبهات، بل يطالها اللغط إن لم يكن بالاتهام الصريح ولعيبٍ فاضح فيها فمن ضمن خطة الدفاع عن النفس بتعميم الشبهة وإسقاط الحصانة عن الجميع، أفراداً ومؤسسات، ليسهل القول بعد ذلك: الكل خطاة ومتورطون ولا بريء!
اليوم، مثلاً، سيثور الغبار في المجلس النيابي، وسيحتدم الجدل وسترتفع الأصوات بالاتهام بينما النواب يحاولون استدراج الحكومة إلى القول بضرورة إرجاء الانتخابات البلدية والاختيارية، في حين سيجتهد جهابذة الحكومة في إحراج المجلس لإخراجه ودفعه إلى تبنّي مطلب الإرجاء أو التواطؤ معها عليه.
لكلٍّ خطته بينما الهدف واحد: التخلص من هذه »الكأس المرة« التي قد تتيح للناس في مختلف أنحاء لبنان، بمدنه وبلداته وقراه ومزارعه ودساكره، أن يقولوا رأيهم مباشرة في أمر ما يتصل بشؤونهم الحياتية البسيطة.. والمهمة جداً.
لا أحد من رتبة نائب فما فوق، وصولاً إلى الرئاسات، يريد الانتخابات البلدية والاختيارية.
لكن أحداً منهم لا يجرؤ على مواجهة الناس بموقفه المجافي للديموقراطية.
على هذا فكلٌّ يستدرج الآخر لكي يجهر برغبته أولاً، فيعلن أن عدم وجود مجالس بلدية ومختارين أفضل لسلامة البلاد والعباد، وأن الانتخابات جلاّبة إشكالات وخلافات وأنها توقظ الفتنة النائمة (؟!) وتطلق نهراً من الدماء يمتد من أرز الرب وحتى فقش الموج على الشاطئ اللازوردي للمتوسط!
وحده رئيس الجمهورية، لأسباب عديدة بينها وعيه بأن شريكيه في الترويكا غير متحمسين لمثل هذا الأمر الذي سيعرّضهما لخسارة بعض »وهجهما« الشعبي، يجهر برأيه مطالباً بضرورة إجراء الانتخابات من دون إبطاء، مستخدماً في ذلك المنطق الطبيعي ومقترباً من المطلب الشعبي العام ومن موقعه كحامٍ للدستور..
النكاية قد تكون في خدمة الديموقراطية، أحياناً.
والإحراج المتبادل قد »يورّط« الجميع في ما لا يرغبون فيه، ولكنهم لا يجرؤون على المجاهرة برفضه.
إنها لحظة تاريخية نادرة قد تؤدي إلى كسر بيضة الرخ وكشف المستور!
فالانتخابات لو جرت من شأنها أن تسقط الأساطير والادعاءات التي يتحصّن داخلها أهل السلطان ويتصرفون في هديها وكأنهم البداية والنهاية ولهم القرار في كل ما يتصل بحياة الناس: الشهادة والوظيفة، الخدمة العامة والخدمة الخاصة.. هم يختارون »المختارين« ويعيّنونهم باسم الناس ونيابة عنهم، وهم ينتخبون (ومن بينهم، كلما أمكن ذلك) رؤساء البلديات ويعيّنونهم رؤساء بلديات وأعضاء في مجالسها التي لا تجتمع وتبصم من قبل القراءة!
فأهل السلطان، في لبنان، هم »الناخب« الأوحد!
لقد وصلوا بإرهاب التزكية، غالباً، فصاروا قيّمين على الديموقراطية ومؤسساتها من تحت إلى فوق وبالعكس يحمونها بالانتخاب الدكتاتوري!
أمس، فقط، خاضوا الامتحان الصعب، واضطروا الى أن يذهبوا إلى الناس في بيوتهم الفقيرة، في القرى النائية، ونافقوهم وجاملوهم وواسوهم في أتراحهم وحملوا أطفالهم بل وقبّلوهم كارهين.
فمن أين جاءتهم هذه المصيبة: ان يخضعوا لامتحان جديد خلال ستة أشهر سيفقدهم هالة الزعامة والشعبية الكاسحة و»احتكار« التعبير عن إرادة الناس؟!
ومَن هو هذا »الشعب« الذي قد يتمرّد على أسياده فيسقطهم بعدما يكبّدهم ثروات لكي يشتروا أصواته بينما هم لم يعوّضوا بعد أقل القليل مما دفعوه ثمناً لإرادته (وصوته) في الصيف الماضي؟!
* * *
أهل السلطان لا يقبلون نقاشاً فكيف بالاعتراض أو تعطيل قراراتهم؟
حتى في الجامعة والشأن الأكاديمي يتصرفون بالعقلية نفسها.
لهم وحدهم القرار: هم يعيّنون الطلبة والمدرِّسين والأساتذة والمديرين والعمداء والرئيس.
هم يخترعون الكليات، متى شاؤوا، ويلغون الكليات إذا لم يكن لهم بها حاجة أو غرض!
هم يفرِّغون مَن استنسبوا من الأساتذة، وهم يمطّون الكادر فيوسعونه أو يضيّقونه لإخراج المشاغبين والعصاة.
إن الجامعة، مثل أي مؤسسة أخرى، هي بعض أملاكهم الخاصة يتصرفون بها كما يرغبون، فإن اعترض معترض استخدموا حقهم »المقدس« كممثلين للأنبياء وأصحاب الرسالات: أليسوا هم أيضاً القيّمين على حصص الطوائف حراس حقوق المذاهب؟!
أصحاب السلطان ينوبون عن أهل السماء وعن أهل الأرض معاً.
فمن أين تجيئهم ببدعة الانتخاب، والأفكار المستوردة كالديموقراطية واستقلالية الجامعة وحق مجالسها المتعددة ومعها رئاستها في أن تبت بمختلف شؤونها، ما اتصل منها بالعمادات والإدارات وكراسي الأساتذة ومراتبهم وصولاً إلى إنهاء عصر التقسيم والتفريع واستعادة الوحدة تمهيداً لعودة الجامعة إلى دورها الخلاق في مجال إنتاج النخبة المؤهلة لإعادة بناء لبنان وطناً لا فندقاً وصاحب رسالة وليس مجرّد سمسار؟!
* * *
أهل السلطان لهم حق التدخل في كل المؤسسات، وفي كل شأن من الشؤون، بما في ذلك إقرار المحق والمخطئ من أصحاب الطعون في نتائج الانتخابات النيابية أمام المجلس الدستوري.
إنهم يتدخلون فيمارسون ضغوطاً على الأعضاء المكلفين بإعداد التقارير تمهيداً لإصدار القرارات الفاصلة.
ولقد بدأ اللغط واللغط المضاد يتناول بعض أولئك الأعضاء، وسرت بين الناس شائعات عن عمليات ابتزاز وعن وعود بمكافآت (معنوية أساساً).
إنهم يحاولون تيئيس أصحاب الطعون المحقة، وهم لا يتورّعون عن الإيحاء بمداخلات سياسية لم تقع ولن تقع، ويهوّلون على المجلس الدستوري مباشرة أو بالواسطة، بكليته أو عبر بعض أعضائه، ويستخدمون الأسلحة جميعاً، بما فيها السلاح القذر للعصبيات الطائفية والمذهبية.
والأمل أن يبقى المجلس الدستوري خارج دائرة الابتزاز والخضوع للضغوط المختلفة!
* * *
إنها نماذج من »الفضائح« التي يُراد بها تهشيم صورة الشعب نفسه وليس الحكم وحده.
لكأن المطلوب إفقاد الناس الأمل بالتغيير، على أي مستوى.
لكأن المطلوب أن »يهجّ« الناس أو يستكينوا إلى إحدى الراحتين: اليأس المطلق، تاركين لأهل السلطان أن »يتسلطنوا« أكثر فأكثر.
وبات الأمل محدوداً ومحصوراً في أن تفلت اللعبة من اللاعبين، فيأخذ الإحراج البعض الى الرد بمزايدة توفر للانتخابات البلدية والاختيارية فرصة قدرية لكي تتم في موعدها المقرر بعد شهرين!
.. أو أن تدفع النكاية أهل السلطان إلى رفع أيديهم عن الجامعة الوطنية وتركها تواجه مصيرها في ظل الإفلاس المالي وتخلّي الدولة عنها.
.. أو أن يقرر المجلس الدستوري إنقاذ نفسه وسمعة قضاته الكبار بمواجهة قد تكلّفه دوره المستقبلي العتيد.
فعسانا نفاجأ بمثل هذه الأعاجيب، من خارج دنيا صانعيها، في العادة، وهم دائماً أصحاب السلطان!