طلال سلمان

فدرالية طوائف تحت وصاية »الدول« اغتيال جديد لرفيق حريري

فاتحة الكلام: تحية لشعب فلسطين، لعروبته، ولصموده البطولي وتضحياته التي كادت تتجاوز حدود القدرة الإنسانية من أجل تحرير أرضه بإرادته الجبارة وبعض السلاح والقليل من العون العربي الذي تناقص مؤخراً حتى كاد ينعدم…
تحية لهذا الشعب العظيم الذي يعيش اليوم لحظة فرح نادرة، مع وعيه بأن ما تحقق أقل بكثير مما يستحق ومما يطلب.
لقد جلا جيش الاحتلال ووحوش الاستيطان عن غزة. لكن غزة ما تزال محتلة، شأنها شأن سائر أنحاء فلسطين: هي مطوّقة ومحاصرة بالنار الإسرائيلية… جوها للطيران الحربي الإسرائيلي وحده، بحرها لسلاح البحرية الإسرائيلية وحدها، وبرها مفتوح أمام التهديد بإعادة احتلاله مباشرة في أي لحظة، وداخلها مفتوح لمحاولات إثارة الفتنة بالتحريض الإسرائيلي المكشوف، وبالتدخل الفظ في كل شأن وأي شأن من شؤون سلطتها الضعيفة وأهلها المعزولين بالنار عن أهلهم داخل فلسطين وخارجها.
* * *
.. ومن الجرح الفلسطيني المفتوح، نعود إلى جرحنا اللبناني المفتوح على المخاطر كافة، ظاهرها والمخبوء، وأقلها من صنع محلي وأعظمها من صنع »الدول«.
بداية، يمكن القول براحة ضمير إن أحداً في لبنان، وخارجه، لم يعد ينتظر نتائج التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري: لقد كوّن اللبنانيون قناعاتهم من داخل انتماءاتهم السياسية، ما اهتز منها وما بقي ثابتاً، وقضي الأمر.
هي مرحلة جديدة، إذن: فالجريمة كانت أخطر من أن تتوقف نتائجها عند الشعور بفداحة أن يخسر بلد صغير قائداً سياسياً كبيراً يحمل حلماً عظيماً بلبنان حديث، يمكن تحقيقه برغم ضيق مصادر الرزق فيه، وبرغم كثرة طوائفه ومذاهبه، وبرغم الارتباطات المركّبة لأهله والتي تتراوح بين العشائرية الجاهلية والحداثة المنوِّرة، وبرغم الولاءات المتعددة والموزعة بين الجغرافيا والتاريخ والمصالح، والتي كثيراً ما دفعت بهم إلى حافة الحرب الأهلية.
لقد أسقطت الجريمة »عصر الوصاية السورية« تاركة لتداعياتها المدوية أن تفعل فعلها في حياة البلد السياسية، وأن تفرض شيئاً من إعادة النظر في »هوية« نظامه، بكل مراكز التأثير فيه.
تبدى الوطن الصغير وكأنه يولد من جديد: يتعرّف على تكوينه الداخلي، ويتعرف على حقائق »حياته« وعلاقاته بمحيطه، ومن ثم بالعالم.
أعاد اكتشاف »طوائفه« ومواقعها في نظامه المركب والفريد في بابه: جمهورية بنظام ملكي، وبرلمان بانتخابات ملية، ومؤسسات بإدارة تابعة لأصحاب السلطان، ودائماً على القاعدة المذهبية، وإلى الجحيم الكفاءات والشهادات العلمية ولو مصدرها أرقى جامعات الأرض.
كانت »الدول« على الباب مستعدة لنجدة »الوطن الصغير« ذي الدور المؤثر في منطقته ذات الأهمية الاستثنائية: وخلال فترة قياسية أتمت »الدول« إصدار مجموعة من القرارات النافذة التي تنوب عن »دولته« الضائعة والمضيّعة في تحديد »هوية« لبنان وطبيعة نظامه، وعلاقاته بالآخرين بدءاً بجيرانه الأقربين، وفيهم الأخ الشقيق، وفيهم أيضاً العدو المبين…
كانت الجريمة مهولة فعلاً، بضحيتها الاستثنائي بحجمه وبدوره، ثم بكونها وقعت في لحظة تاريخية فاصلة: فالمنطقة العربية تعيش حالة من الاضطراب والضياع والتخلف عن العصر، أنظمتها مفترقة عن شعوبها، تخاف من »الاستعمار الجديد« فتندفع نحوه للاحتماء به منه… العراق ممزق بالاحتلال الأميركي الذي يحاول إدامة وجوده بتفجير الفتنة بين أبنائه، ومصر مشغولة بذاتها عن دورها، تخضع للمفروض عليها إسرائيلياً في فلسطين، وتنفض يدها من أي مسؤولية قومية، والنظام السوري في موقع المتهم المطارَد بالغضب اللبناني الناجم عن خيبة الأمل إضافة إلى المسؤولية عن لبنان، بما في ذلك خطأ التمديد، ثم عن وقوع الجريمة التي ذهبت برجله الأخطر: رفيق الحريري.
ثم أن الشبهات حول الجريمة طالت مصادر القرار في لبنان، بدءاً بقمتها، فضلاً عن الأجهزة الأمنية والقضائية، خصوصاً أنها كشفت هشاشة السلطة وانعدام شعبيتها، وعجزها عن منع الجريمة، ثم عن التعامل مع تداعياتها بما يحفظ »الوحدة الوطنية« ويحصن النظام.
وهكذا فإن لبنان يعيش حالة من الاضطراب الكامل: لقد فقد توازنه المركب والذي كان يبدو أصلب من أن تذهب به الصدمات. خرج ما كان في باطنه إلى السطح. لقد ذهب الشعور بالأمان مع سقوط الحريري شهيداً لكأن اللبنانيين يعيدون اليوم النظر في كل ركائز وجودهم: هويتهم، نظامهم السياسي، علاقاتهم بمحيطهم وبالعالم.
وواضح أن نسبة عالية من اللبنانيين قد هربت إلى »التدويل« باعتباره مصدر الحماية لحقوق الطوائف في النظام. صارت »العروبة« موضع تشهير، وتنكر لها الكثير ممن كانوا يبالغون في إعلان إيمانهم »بوحدة المسار والمصير« حتى مج الناس الشعار نفسه الذي أفرغه العبث من مضمونه.
وصار على اللبنانيين أن يتلقوا كل يوم »نصائح« السفراء الأجانب، والسفير الأميركي أساساً، التي تطاول مختلف شؤونهم الداخلية: بدءاً بالموقف من الانتخابات النيابية، إلى الانتخابات الرئاسية التي يتوقعها كثيرون قريبة، وانتهاءً بسفر رئيس الجمهورية إلى نيويورك.
صار السفراء الأجانب، ولا سيما الأميركي، زواراً جوالين في مختلف أنحاء لبنان، يحدثون اللبنانيين عن »سورية« مزارع شبعا، وعن ضرورة التخلص من سلاح المقاومة كشرط لضمان الوحدة الوطنية، وينبّهون إلى عشق اللبنانيين للديموقراطية، بينما هم يخرجون من لقاء مرجع ديني إلى لقاء مرجع ديني آخر.
لم يعد ثمة مجال للمفاضلة كما جرت العادة تقليدياً في الماضي بين التعريب والتدويل. كل الأوضاع العربية مدولة: دولاً ومؤسسات. كل شأن من شؤونهم الداخلية والخارجية، بما في ذلك العلاقات في ما بين العرب هو أمر دولي تنظمه وترعاه »الدول« ولو مختصرة بالإدارة الأميركية.
* * *
لم يعد أحد في لبنان وخارجه ينتظر نتائج التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري: لقد أتمّ الناس المحاكمة وأصدروا حكمهم… ولكن ماذا عن الغد؟ ماذا عن هوية لبنان وعلاقاته بمحيطه، وسوريا بالذات؟ ماذا عن عروبة لبنان، وهي لم تأت محمولة على الدبابات السورية، ولا هي »جلت« عنها مع خروج القوات السورية منه، ولا هي كانت بالتأكيد هبة من »عصر الوصاية السورية« على لبنان؟!
إن أخطر المخاطر على عروبة لبنان هي أخطر المخاطر على نظامه.
فارتفاع أصوات الداعين إلى فدرالية الطوائف لا يهدد هوية البلد فحسب، بل يزعزع ركائز نظامه السياسي.
وهل من دليل أوضح على التوجه نحو فدرالية الطوائف من »اتفاق الجنتلمان« الذي تمّ تلقائياً بين الأطراف اللبنانيين، ودائماً تحت رعاية »الدول«، من أن كل طائفة تقرر من يكون الرئيس منها، ومن يكون الوزير ولأي حقيبة، ومن يكون المدير لهذه الإدارة أو تلك؟
وها هو النقاش حول شخص رئيس الجمهورية المقبل بافتراض أن التحقيق الدولي سيذهب بالرئيس العماد إميل لحود يغدو »حقاً حصرياً« للموارنة، يمنع على الطوائف الأخرى أن تشارك فيه، ترشيحاً أو اقتراحاً؟!
* * *
مَن يقل: »إن الطائفة تقرر«، فإنما يعني فعلاً: »إن الدول الأجنبية تقرر«.
فكلما تضاءل وجود الدولة، في لبنان، تعاظم بروز الطوائف لسلطات مقررة بقوة الأمر الواقع الطائفي، وكان ذلك استسلاماً للوصاية الدولية التي ترعى التوازن في الحقوق!! بين الطوائف.
مَن يقل: »ان الطائفة تقرر«، فإنما يعني فعلاً ان لبنان مجرد من هويته العربية، وأنه في ظل الافتقار إلى هوية وطنية جامعة تذهب كل طائفة إلى »موقعها« الممتاز داخل النظام ولو على حساب الوطن.
والتعامل مع جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري على أنها جريمة ضد طائفة بذاتها، وليس ضد لبنان مجتمعاً، وضد هويته العربية ودوره القومي، هي جريمة اغتيال ثانية ضد الرئيس الشهيد.
ومَن يتذرع بهذه الجريمة من أجل تبرير فدرالية الطوائف فهو شريك في اغتيال رفيق الحريري، قصد ذلك أم لم يقصده.
وكائناً مَن كان المشاركون في التخطيط والتحريض والتنفيذ والقتل فإن الضحية الكبرى إلى جانب رفيق الحريري هي هوية لبنان واللبنانيين… وهي بهذا المعنى بعض ما يدبر للمشرق العربي: بدءاً بالعراق وصولاً إلى فلسطين، مروراً بسوريا التي سيشتد عليها الحصار السياسي الخانق والذي يُراد له الآن أن يكتسب تبريراً إضافياً من خلال ما وقع في لبنان وله.*

Exit mobile version