إنه اليوم السادس والتسعون بعد الألف على »السقوط الثاني« لبغداد، وهذه المرة أمام الاجتياح العسكري الأميركي للعراق.
إنه اليوم السادس والتسعون بعد الألف على تكامل حلقات الهزيمة العربية الشاملة: كانت المقدمات في فلسطين ومن حولها، في العجز عن التصدي للمشروع الإسرائيلي، وها هي »بشائر« النهايات تطل من أرض الرافدين التي أنهكها طاغيتها حتى إذا دهمها الاحتلال الأميركي لم يجد فيها من يقاومه.
إنه اليوم السادس والتسعون بعد الألف على السعي لإيقاظ الفتنة إاشغال العراقيين بأنفسهم، وإرهاب »دول الجوار« بالنار الزاحفة في الاتجاهات الأربعة.. وها هو يمر على العرب وحدهم بهدوء كما كل أيام انسحاقهم تحت أثقال واقع تخلفهم المزري، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً.
إنه اليوم السادس والتسعون بعد الألف على احتلال العراق، و»الغضب« يكاد يعمّ الأرض جميعاً، ما عدا بلاد العرب: إنه يتفجر تظاهرات حاشدة في قلب الولايات المتحدة الأميركية وشريكتها بريطانيا، والعديد من الدول شرقاً وغرباً، ويفضح تراجع شعبية قادة الغزو في بلادهم وينذرهم بالسقوط في الانتخابات المقبلة..
أما في بلاد العرب فلا شيء غير الخوف والصمت والعجز المطلق!
… حتى بيروت التي كانت »الشارع العربي« مشغولة الآن بهمومها عن هذه الفاجعة التي تعكس نفسها فيها خوفاً متبادلاً بين الأخ وأخيه.
… حتى في دمشق التي طالما وصفت ففرحت بأنها »قلب العروبة النابض«.
… حتى في القاهرة التي كانت عاصمة القرار العربي والتي يفضح غيابها العجز العربي ويجسمّه.
أما فلسطين فمشغولة بوجعها وجوعها، متروكة لجراحها وشقائها بينما الاحتلال يذيب أرضها وقضيتها وهويتها أمام عيون العالم ولا معترض إلا على نتائج انصياعها لطلب الديموقراطية فيها.
* * *
يروي الأخ العراقي القادم من بغداد نتفاً من المحن التي تعيشها عاصمة الرشيد بملايينها، ويكاد يبكي وهو يسرد تفاصيل حركة التبادل السكاني بالنزوح هرباً من القتل على الهوية: تقارب بغداد ان تصبح مدينتين »نظيفتين«، إحداهما بأكثرية سنية مطلقة والأخرى بأكثرية شيعية مطلقة، وتعيس الحظ هو من يعيش عند خطوط التماس…
يقول هذا الآتي »في إجازة قصيرة من الرعب اليومي«: تراجع الحديث عن الفيدرالية. نحن نتقدم في اتجاه تفتيت العراق إلى خمس أو عشر دول أو ربما إلى دويلات عدة، واحدة لكل عشيرة… وكل ذلك تحت بصر الأميركيين، وبتواطؤ منهم على الارجح.
أما الصديق الآخر الذي مرّ ببيروت عبوراً فيقول بلهجة تنضح مرارة: أظنني سأعود إلى المنفى، وهذه المرة باختياري. ان الحياة مستحيلة في بلادي التي تمزّق ويغطي دمها وجهها أمام عيوننا جميعاً. لقد استخدم المحتل الأميركي الانتخابات كمدخل »ديموقراطي« إلى الفتنة. لقد عرّضونا لاشكال مختلفة من الاستفتاءات والعمليات الانتخابية حتى ضمنوا بعث الذكريات السوداء لماضي الطغيان وتوظيفها ضد المستقبل.
يضيف بعد أن يستعيد شيئاً من هدوئه: لقد نجح الاحتلال في تهديم ركائز الدولة في العراق، ميّزوا في تعاملهم مع العراقيين (تبعاً للمناطق والطوائف) بحيث صوروا للبعض أن البعض الآخر يتآمر عليهم. ثم إن إدارة الاحتلال قد عممت الفساد رشوة ونهباً وصفقات مشبوهة حتى كدنا نترحم على أيام صدام. إن خيرات العراق تنهب أمام عيوننا، بينما الأكثرية من العراقيين يعانون من فقرهم إلى حد الجوع. المرافق شبه معطلة. الكهرباء لبضع ساعات يومياً. تصور أن في العراق الذي يسبح في بحيرة من النفط أزمة وقود؟ أما الرشى فحدث ولا حرج. لا أمر يتم بلا رشوة. لقد سمعتم بالتأكيد أخبار الرشى الهائلة التي تقاضاها الحاكم العسكري الأول للاحتلال وزبانيته.. لقد ذهب بريمر لكن اسلوبه مستمر وإن كان الشركاء العراقيون هم اليوم أكثر من ذي قبل. أما النهّابون من »الأخوة العرب«، سواء من دول الجوار أم من خارجها فحدّث ولا حرج. انهم يبيعون من العراق ويشترون على حساب قوت أولادنا… والأقرب هم الأسوأ!
يعود القادم من بغداد إلى الحديث فيقول: إننا نقرأ ما يجري لفلسطين بعيون عراقية، فنبدّل في اسماء الاماكن لنرى لنا مصيراً مثل مصيرها، التفتيت وتذويب الكيان والقضية. اننا محاصرون مثل الفلسطينيين ومجوّعون مثلهم، وبلا نصير ومتروكون للريح مثلهم، يهرب منا المسؤولون العرب لأننا نثقل على مصالحهم لا على ضمائرهم.
ويستعرض العراقيون نتائج الاحتلال الاميركي (البريطاني) على شعبية جورج بوش وطوني بلير، ويظهرون إعجابهم بالرأي العام الاميركي حيث تدنت شعبية بوش الى 36$ مقابل 61$ يجهرون بمعارضتهم، وزادت نسبة المطالبين بالانسحاب حتى باتت الاكثرية.
أما عند العرب فلم تتأثر »شعبية« اي حاكم عربي وله الحمد!
* * *
في العراق تحت الاحتلال: فرق قتل طائفية، بعضها من قوى الأمن، والحياة في مستوى الصفر. وفي عهد الطغيان كان للعراقيين عدو واحد هو صدام. الآن هناك اكثر من عدو، حتى لم يعودوا قادرين على التمييز بين الصديق والعدو: »اننا نعيش في ظل حرب اهلية غير معلنة ناجمة عن انسداد الأفق السياسي. ولقد صار العراق رهينة ليس فقط في اليد الاميركية، بل كذلك في ايدي دول اقليمية اخرى، على ما تروج الدعاية الاميركية. وهذه الانتخابات والديموقراطية تصير مدخلاً شرعيا الى الفتنة والتقسيم او الشرذمة«.
وفي العراق تحت الاحتلال: الحياة في مستوى الصفر. لقد فقد العراقيون أملهم في الغد: »كنا نشعر بأمان اكثر في عهد صدام. الآن، لا احد يضمن أمنه عندما يخرج من منزله، والقتلة المأجورون والمرتزقة في كل مكان، والقتل »مقاولة« مربحة: للمطلوب اغتياله ثمن، ولفدية البيت ثمن، وللسيارة ثمن. للرشاش ثمن، ولقاذف الصواريخ ثمن وحتى المصفحات لها اثمانها المعروفة. وفي عهد الطغيان كانت الحياة افضل. كان التعذيب والقتل يحدثان سراً. الآن يجري ذلك علناً، وتعرض صور التعذيب البشعة في وسائل الاعلام كافة، ويسمع العراقيون عن محاكمات ومحاسبة ولكن بعد فوات الأوان، وفي ظل استمرار المعتقلات وعمليات التعذيب«.
لا تسل عن الدول العربية في العراق: ليس لها أي دور تقريبا.. وثمة عتب يكاد يتحول الى غضب على »الاشقاء العرب« الذين ندر بين دولهم من ارسلت الى بغداد سفيراً وجهاز سفارة. معظمها تكتفي بعدد محدود من الموظفين الذين لا يملكون قراراً: »لقد تخلوا عنا، وهم قد تفرغوا للدنيا والتشهير بنا«.
* * *
انه اليوم السادس والتسعون بعد الألف. انها السنة الرابعة في ظل الاحتلال الاميركي للعراق، ولا معين. على العراقيين احيانا ان يطلبوا نجدة إنقاذ من المحتلين. إن الفتنة تجعل خطر الاحتلال أقل من حقيقته إذا ما قورن بها.
إنها السنة الرابعة على احتلال الارادة العربية…
وأقصى طموح عند العراقيين ألا تكون هذه سنة »الفتنة الكبرى«، التي لن يكون العراق وحده ضحيتها إذا ما تفجرت تحت ضغط الاحتلال والعجز عن مواجهته.
إنه اليوم السادس والتسعون بعد الألف على الاحتلال: يخاف العراقيون أن يكون يومهم أرحم من غدهم… وكذلك العرب في مختلف ديارهم.